عملت الحركة الإسلامية منذ ظهورها في السودان في الستينيات على مشروعها الذاتي للوصول للحكم والتمكين عبر السلطة، وكان دليلهم الفقهي في ذلك مقولة سيدنا عثمان بن عفان ( ان الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقران)، علمت الحركة ان مشروعها لن يتم تطبيقه في السودان عبر الانتخابات في ظل سيطرة أحزاب الوسط الأمة والاتحادي على الجماهير، لذلك إتجهت إلى تطبيقه عبر انقلاب ٣٠ يونيو ١٩٨٩، حكموا السودان بمشروعهم هذا ٣٠ سنة عجافا ليسقط اخيرا تحت أقدام الملايين من أبناء السودان بثورة ديسمبر المجيدة.
على النقيض من مشروع الإسلاميين اليميني كان هناك مشروعا يساريا موجودا كذلك في السودان ويسعى للسلطة ايضا، المشروع اليساري اقدم من مشروع الحركة الإسلامية تاريخيا، ولكنه ظل يواجه نفس معضلتهم في الوصول إلى الحكم عبر الجماهير. لذلك سعى الى الوصول الى السلطة عبر احدي وسيلتين الانقلاب، أو السيطرة على ثورة شعبية وتحويلها إلى ثورة يسارية راديكالية.
مشروع الإسلاميين كان يستهدف إقامة دولة دينية مركزية اساسها الايدولوجي فكر جماعة الإخوان المسلمين، من وجهة نظرهم هذه دولة ذات رسالة إلهية وبالتالي لا يمكن هدرها بالديمقراطية الانتخابية ولا تمييعها بالحريات العامة. المشروع اليساري إستهدف إقامة دولة علمانية مركزية تسيطر فيها الدولة على وسائل الإنتاج وتحول السودان إلى نظام شيوعي على قرار الأنظمة الشيوعية العالمية لمواجهة ما يسمونه خطر واطماع النظام العالمي الجديد. المشروعان لا يتمتعان بالقبول الجماهيري، وبالتالي امكانية تطبيقهما عبر الوصول الديمقراطي إلى السلطة شبه مستحيل، لذلك كان عليهما اختيار وسيلة اخرى، الانقلابات او السيطرة على الثورات الشعبية.
اختار اليسار في عام ١٩٦٩ الطريق الاول ( الانقلاب ) لتطبيق مشروعهم، نجاح الانقلاب كان زهوا عظيما لم يشعروا به من قبل، ولكن ما لم يكن في الحسبان حدث حين وقف كيان الأنصار وحزب الأمة في وجه الانقلاب الجديد، وأعلنوا العصيان لاوامره والاعتصام حتى اسقاطه واستعادة الديمقراطية، هذا الموقف اربك المشروع اليساري وفضح شعاراته التي تصف الأنصار بالرجعيين، وقاد التجييش الإعلامي النميري لضرب اعتصامات الأنصار في ودنوباوي وفي قبة الإمام المهدي في امدرمان، وفي الجزيرة ابا في مجازرة دموية راح ضحيتها ما يفوق الثلاثة آلاف شهيد ثم إغتيال امام الأنصار ورئيس حزب الأمة السيد الهادي المهدي.
تمرد جعفر نميري مبكرا على المشروع اليساري، حين شعر بأنه كما استعدى عليه الأنصار فانه سوف يستعدي عليه جميع فئات وطوائف الشعب، أبعد النميري اليساريين بعد تقريب وخاشنهم بعد الود، ولكن اليساريين لم يكن في نيتهم التراجع ولا التنازل، فقرروا الانقلاب على انقلابهم، الانقلاب على النميري في يوليو ١٩٧١ بقيادة هاشم العطا، فشل الانقلاب بعد ثلاثة أيام من سيطرته على الحكم واستعاد نميري سلطتة الباطشة، وبطش بهم بلا رحمة، فأعدم كل عساكر الانقلاب اليساريين وكل قادة الصف الأول من الحزب الشيوعي.
انقلاب جماعة الكيزان في يونيو ١٩٨٩، أطلق الروح مجددا في المشروع اليساري الذي كاد ان يندثر بعد إعدام قادته على يد النميري، التجمع الوطني الديمقراطي زاد الروح اليسارية دعما ثم اكسبهم دفعة اخرى مشروع الدكتور جون قرنق ( السودان الجديد ) الذي تخلق تحت رعاية نظام مانغستو هايلي مريام الشيوعي في إثيوبيا، موت جون قرنق في حادث تحطم طائرة ثم انفصال الجنوب حطم كثيرا من أحلام المشروع اليساري، ولكن ثورة ديسمبر أعادته مجددا، وأعادت معه السيناريو الذي لا خيار أمامهم سواه وهو السيطرة على هذه الثورة وتحويلها إلى ثورة يسارية بحتة، وهي سيطرة تواجهها الآن ثلاثة عقبات حزب الأمة القومي ومليشيا الدعم السريع والأجيال الجديدة غير المسيسة.
المشاريع الايدولوجية تجعل الايدولوجيا في اوقات كثيرة امام الديمقراطية والحرية وحقوق الانسان، لذلك عملية بناء الدولة السودانية الجديدة تتطلب نقدا يستهدف هذه المشاريع وطرقها الملتبسة وغير الشرعية في الوصول إلى الحكم، وتعميق ثقافة الديمقراطية وشرعية الانتخابات بين الجماهير.
sondy25@gmail.com