لم يكن يتوقع كثيرون قبل 30 يونيو 1989م أن يتركوا وطنهم قسراً، وعلى لسانهم قول الرسول الكريم عليه صلوات الله وسلامه، وهو يغادر موطنه مكة: “ما أطيبك من بلد! وما أحبك إلي! لولا أن قومي أخرجوني منك، ما سكنت غيرك)، وهو القول الذي يكشف مدى حب الإنسان العميق، وتعلقه بوطنه الذي ولد وتربى ونشأ وترعرع فيه. وفى الحديث عن عائشة – رضي الله عنها -: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يقول في الرقية: (باسم الله، تُرْبَةُ أَرْضِنا، ورِيقَةُ بَعْضِنا، يَشْفَي سقيمُنا بإذن الله). وحب الوطن فطرة وغريزة إنسانية، كما قال الجاحظ كان من عادات العرب إن غزت أو سافرت تحمل معها تربة من الموطن رملاً وعفراً تستنشقه، لذا فليس ثمة غربة أصعب وأشد على الإنسان من الغربة عن الوطن وأرضه.
إن المواطنة علاقة تربط الإنسان بالوطن أرضاً وشعباً، ويجعله يتفانى في خدمة مصالحه والدفاع عنه مقابل التمتع بكامل الحقوق السياسية والدستورية والقانونية والثقافية والاجتماعية وغيرها، وهي مسائل ذات ارتباط عضوي بالحرية ويالديمقراطية التى تجعل من الشعب مصدر السلطات؛ لتشكل الحاضنة الأساسية لميدأ المواطنة .
بغياب الديمقراطية ومن ثم، فرض الديكتاتورية على وطننا وشعبنا منذ 30 يونيو 1989م، وما نتج منه من حجب الحقوق الدستورية والمدنية وموارد الدولة الإقتصادية التى هي أساس التلازم بين حقوق المواطنة وواجباتها، جاءت النتيجة الطبيعية، وهي هجرة كثيرين عن الوطن قسراً، في هجرة إقتصادية أو لجوء لدول الغرب بحثاً عن وضع أفضل لهم.
كما أن الحروب التي فرضها النظام في جنوب الوطن وغربه وشرقه نتج منه نزوح أعداد كبيرة من المواطنين داخلياً إلى معسكرات اللجوء، وأصبح فيها هؤلاء المواطنون غرباء عن وطنهم، أما معظم من صمدوا بالداخل فظلوا غرباء عن وطنهم أيضاً من خلال الإحالة إلى الصالح العام، أو قصر الوظائف والمصالح على أهل الولاء باسم التمكين؛ لتكون المحصلة النهائية خروج ما يقارب من ثلثي السكان من المظلة الرسمية للدولة، والحرمان من التمتع بحقوق المواطنة؛ ليصبح هذا الكم الهائل مواطنين بلا وطن، ولا زالت أعداد المهاجرين واللاجئين والنازحين تتزايد يوماً بعد يوم.
كانت النتيجة الطبيعية لهذا الوضع المزرى تخلي معظم المواطنين عن القيام بواجبهم ودورهم نحو المجتمع نتيجة للتلازم بين حقوق المواطنة وواجباتها، ولضغوط المعيشة التى فرضها النظام على المواطن للحصول على لقمة العيش، بينما تنعم القلة الحاكمة، وبطانتهم برغد العيش والرفاهية؛ لتنهار خدمات الدولة ومؤسساتها ومشروعاتها . وبهذا أصبح غالبية السكان مواطنين دونما وطن، وهو العنوان الذي اخترناه لمقالنا من قصيدة للشاعر نزار قباني لدقة الوصف لما عليه حالنا اليوم، إذ يقول:
مطاردون كالعصافير على خارطة الزمن
مسافرون دون أوراق وموتى دونما كفن
نبحث عن قبيلة تقيلنا
ونبحث عن ستارة تسترنا وعن سكن
وحولنا أولادنا
أحدودبت ظهورهم وشاخوا
وهم يبحثون فى المعاجم القديمة
عن جنة كبيرة عن كذبة كبيرة
اسمها الوطن
هذا الوضع المتردي الذى لازم المواطنين خلال أعوام الإنقاذ العجاف أدى إلى تأكل أرض الوطن من جنوبه وشماله وشرقه، واستشرى الفساد تعدياً صارخاً على المال العام، وفساداً أخلاقياً وسياسياً يتقدم ركبه أكبر المسؤولين، وفى أعلى درجات سلم السلطة في الدولة؛ حتى لم يعد هناك خط أحمر، فالوطن أرضاً وشعباً وجيشاً وكرامة معروض للبيع على أرصفة العواصم والله المستعان.
إن على النظام تدارك خطورة الأوضاع الحالية بمراجعات سريعة وشفافة لمواقفها السياسية، ليفتح الباب أمام مخالفيه الرأي من القوى الحية، حتى يكون هناك حوار بناء وشامل دون إقصاء، ولا يستثني أحداً في سبيل تحقيق السلام العادل الشامل، والتحول الديمقراطي الكامل؛ لأن الحالة التي يمر بها الوطن، وما نعيشه من ظواهر، ونراه رأي العين من تدهور في جميع المجالات ينذر بخطر داهم، سيكون الحاكمون أول ضحاياه؛ ليتسرب بعدها الوطن من بين أيدى الجميع، ولآت ساعة مندم.
ألا هل بلغت اللهم فاشهد.
“