احتفلت فرنسا قبل أيام بثورتها العظيمة التي ألهمت كثيراً من المتطلعين في العالم قيم الحرية والعدالة والمساواة ومبادئها؛ بل أخذت من هذه الثورة مقولات منها “الثورة تأكل أبناءها”. فعلى الرغم من نبل قادة الثورة الفرنسية مبادئهم وأهدافهم، إلا أنهم اختلفوا في الوسائل في أخريات ايام نضالهم، فتصارعوا، وانتهى ذلك باقتياد ثلاثة منهم الى المقصلة، وهم (روبسير ودانتون ومارا)، وكانت نهاياتهم مأساوية، وكان أشهر هؤلاء المغدور بهم دانتون الذي قال للجلاد عند اقتياده للمقصلة: “فضلاً بعد أن تقطع رأسي ارفعه عالياً؛ ليراه الجمهور جيداً لأنه رأس جدير بالنظر”.
أوردت هذا الكلام مقدمة لتطورات ومستجدات الأحداث في الحركة الشعبية شمال. فجيل قادة الحركة الشعبية شمال الحالي نشأ في حضن الحركة الشعبية الأم التي كانت امتداداً لحركات تمرد مسلحة في الجنوب قاتلت سنوات طويلة من دون أن تتمكن من العبور جغرافياً خارج الإقليم الجنوبي، ولكن بانضمام مجموعات من أبناء جبال النوبة، فقد تحول العمل المسلح في الجنوب إلى ثورة مهابة زحفت تهدد الشمال البعيد الآمن سنيناً.
نعم كان أبناء النوبة إضافة حقيقية إلى العمل المسلح في الجنوب. النوبة دائماً يمثلون إضافة مفيدة لأي مكون بناء في وطن المليون ميل مربع، لكن للأسف وفي كثير من الحالات يتم استخدامهم في صنع النجاحات، لكنهم لا يحسنون قطف الثمار كغيرهم.
نعم استخدمتهم الحركة الشعبية بقيادة جون قرنق فأعطوه الثقة في تنفيذ “مانفيستو ” تقلب بين اليسار واليمين تارة، وأخرى الى الجهوية العنصرية، ثم القومية المشبعة بالمواطنة التي نقلت صوت الهامش إلى المركز، فاكتسبت الحركة الشعبية في بعض المراحل عنفواناً، وتسلحت بخطاب لفت انتباه الجميع.
لكن صيرورة حراك الحركة الشعبية لم يكن آمناً في كل مراحله، إذ كان لا بد من منعطفات وسهول وجبال، وخلال عصف الأفكار وتضاربها كانت هناك أسماء لامعة ومخلصة، جرى التخلص منها في أحراش الجنوب، أو حُددت إقامتهم في سجون جبرية بجوبا منذ سنين عدة الى يومنا هذا، مثل: القائد تلفون كوكو أبو جلحه، وذلك لأنهم حاولوا إبداء رأي مخالف، وأنه لا بد من صرخة للناشطين في آذان منظمات حقوق الإنسان، ومطالبتها للتدخل، ومعالجة حالة الرجل.
اليوم أيضاً يضيع الطريق، وتختلط الأمور لدى قيادات الحركة شمال، وعلت نعرة أن فلاناً ليس نوباوياً، وأن ذاك جلابي، وكاد ياسر عرمان ومالك عقار أن يصعدا عتبة المقصلة، لتتأكد مقولة ان الثورات تأكل بنيها.
وياسر عرمان مهما قيل عنه وعن خلفيته اليسارية المعادية للقيادات التقليدية التاريخية، لكن في الايأم الاخيرة قد حدثت له تحولات إيجابية كبيرة، يدعمه في ذلك أنه متعدد الثقافات غير معقد اجتماعياً، ولو استمر ضمن منظومة قيادة الحركة سيكون مكوناً ذا قيمة وبعداً قومياً، وليس خصماً على خصوصية قضية جنوب كردفان كما يرى بعض معارضيه.
الجنوبيون كانوا أذكياء في استغلالهم النوبة من أجل تحقيق مصالح الجنوب. فمؤتمر “كل النوبة ” في كاودا 2002م الذي حضره القائد جون قرنق استغفل الحضور من قادة النوبة، وهم وسط جمهورهم وأرضهم، ورغم بلاءآتهم المشهودة، وذلك بتفويض جون قرنق في التفاوض مع الحكومة باسم النوبة، بدلاً من أن يقوم النوباويون بذلك بأنفسهم. فجاءت اتفاقية نيفاشا المائلة؛ لتؤمن حقوق الجنوب والجنوبيين، وتظلم الشمال، وتنسى النوبة تماماً؛ ولم يُنتبه إليهم إلا بعد احتجاجات بعض النوبة.
فعاد قرنق ليتذكرهم ويذكرهم في ملحق ما سمي ببروتوكولات المناطق الثلاث، الذي كان قنبلة موقوته لسودان الشمال، وصفها الأخ حسين كرشوم في إحدي مقالاته “ببيضة أم كتيتي”. وطائر أم كتيتي هو طائر خرافي مشؤوم ، ويقال إنه أذا عثرت على بيضه فهو مصيبة كبرى؛ لأنك أذا أخذت البيض ستموت أمك، وإذا تركته مات ابوك، فكان هذا حال التعامل مع هذه البروتوكولات.
دخلت الحركة الشعبية جنوب كردفان في اوائل الثمانينيات، وكان أكبر أخطائها استهداف المتساكنين من الإثنيات غير النوبية، فضربت قرية القردود بتلودي، وأهلها خارجون من مسجد في شهر رمضان في عام 1985م لتخلف ضحايا أبرياء، وقد بلغ عددهم أكثر من 100 قتيل.
وبعدها تكررت الأحداث في مناطق أخرى، ولمدنيين عزل من إثنية محددة؛ وهذا ما جعل المركز يهرع إلى نجدة مواطن الهامش من ويل ثوار يدعون أنهم جاؤوا للانتصار لإنسان الهامش!!. فكانت بداية تهتك النسيج الاجتماعي، وتصنيف السكان، والقتل المتبادل على أساس الهوية، وقد ظلت المنطقة تعاني من تبعاته حتى اليوم، حيث نشأت تنظيمات دفاعية (الدفاع الشعبي والدعم السريع)، ظلت لحكومة تستغلها إلى أقصى حد في محاربة الحركة الشعبية.
كان يمكن للحركة الشعبية أن تكون قوية محمية الظهر لو عملت على كسب محيطها الحيوي الحاضن لها من جميع المكونات السكانية من دون تصنيف. وما أعرفه عن قيادات الحركة الشعبية شمال من أبناء النوبة وأغلبهم سكنت معهم، و تزاملنا سوياً في المراحل الدراسية المختلفة، فمنهم من تضعه على الجرح ليبرأ، كما يقال، والأخ عبدالعزيز الحلو مثال.. لكنه اليوم ليس ذاك الرجل الذي كنا نعرفه، إذ يبدو أنه مختطف وأسير “مانفستو” الحركة الشعبية الجنوبية، ومفكري اليسار من الشمال الذين أخذوا ينظَرون للحركة الشعبية شمال، وهم لا يعرفون دقائق العلاقات البينية التاريخية لسكان المنطقة من القبائل المختلفة وخصوصياتها. فالحركة الشعبية إذا أرادت أن تعيد بناء نفسها من جديد على أسس سليمة عليها أن تتصرف بشجاعة، فتترك جانباً ردود افعال حكومة الإنقاذ والمتضررين من الحركة الشعبية، وما نشأ من تنظيمات دفاعية، وأكرر دفاعية أياً كان شكلها، والتخلي عن فلسفات اليسار، والعودة إلى إرث المنطقة بعاداتها وتقاليدها المتنوعة، وإلى شيوخهم وقساوستهم؛ بل حتى إلى الكجور للتصالح مع كل المكونات السكانية، والاعتذار لهم عما حدث من تفلتات بحقهم، والعمل بصدق على إعادة ترميم العلاقات الاجتماعية، والنظر بإيجابية للأعراف، واستدعاء الأحلاف والتحالفات التاريخية بين أهل المنطقة، وتطويرها؛ لتجسير الثقة بين المتساكنين، من أجل ضخ دم الحياة من جديد في مجتمع جنوب كردفان؛ لكي يعود إليه السلام والاستقرار، كما كان في الزمن الجميل، ومن ثم توحيد كلمتهم للتفاوض مع المركز.