كنت ولا زلت من المعجبين الذين تشدهم كتب الرحالة القدماء أمثال ابن بطوطة وابن خلدون، وخصوصاً الذين كتبوا عن السودان، مثل: ناختيقال ومحمد عمر التونسي اللذين زارا سلطنة الفور، وديفيد ريبوني وجيمس بروس في زيارتهما لمملكة سنار وغيرهم. وحديثاً تابعت بشغف إصدارات الكاتب المصري المشهور أنيس منصور، وكتابه “حول العالم في 200 يوم” يعرض الكتاب كثيراً من القصص والمغامرات المثيرة، وكنت أتأمل مغتبطاً الظروف التي تأتت للكاتب أنيس منصور، ومكنته باختياره الاستمتاع بممارسة هواية التغرب والتجوال في بلاد الآخرين.
فالكاتب من المشجعين لهجرة الشباب المصريين، ويقول: إنها تضفي عليهم حيوية، وتكسبهم الجديد من فنون الحياة، وتمدد من رقعة مصر وهو في ذلك قد أصاب.
لي تجربتي الشخصية حيث ساقتني الظروف فصرت من ممارسي عملية الاغتراب والسفر، فأكتشفت أنه المُر المغلف بالعسل. فمفارقة الأوطان فيها كثير من المعاناة والمرارات خصوصاً عندما يكون المرء مجبوراً على ركوب الصعب، وهو يلاحق شعاعاً بعيداً كالسراب بآمال عريضة. إنها الحياة، ففجأة قد تستوعبك ضمن مجتمعات وثقافات جديدة عليك تماماً قد لا تستسيغها. وقد تنجح في تحقيق الأمل، وصنع الفرح فيسطع النور من جديد، وأحياناً قد لا يحدث ذلك أبداً فيستمر الظلام بلا أمل.
كثيرٌ من الذين تركوا بلادنا أرض السمر والنيل خرجوا خماصاً على أمل أن يعودوا بطاناً. فبعضهم خرج باحثاً عن ملاذ آمن يمارس فيه الحياة، بعد تعرضهم للقهر السياسي، وتهددت أرزاقهم بسبب “مشروع الصالح العام” الذي ابتدعته الإنقاذ في أول أيامها، لأجل تمكين آخرين. فشرد كثيرين، وأُفقرت أُسر.
ومن دواعي الاغتراب أيضاً ضيق فرص العمل والتمييز والمحسوبية السياسية في التوظيف. وفي بعض الحالات كان الاغتراب طموحاً وبحثاً عن الأفضل، فتعددت الأسباب الطاردة من الوطن. فاغترب بعض المواطنين الى دول الخليج وليبيا وغيرها. بينما ركب بعض ركب البحار مهاجراً إلى ديار العم سام أو حتى إسرائيل التي تم تلقيننا بأنها بلاد الكفار ولا رجاء منهم، لكن الغريب أنها استوعبتهم من منطلق إنساني، برفق وعطف وكرم فحصلوا على الجنسية والجواز وحق المواطنة ووفرت لهم الوظيفة ولسان حال أهل البلاد يقول لهم: مرحباًعيشوا بيننا بسلام إن شاء الله آمنين.. إنها مفارقة يصعب لأمثالي استيعابها!
صح لسان من قال ليس نبيلاً من لا يغضب أو لا ينتفض في وجه التحديات، ولا ينظر إلى أبعد من قدميه، أو لا يتخيل عالماً فيما بعد حدود وطنه ليرحل إليه كفضاء أوسع وأرحب عندما تضيق به الحياة. وقديماً قالت العرب “هاجر تجد عوضاً عمن تفارقه”، وقالوا أيضاً :
نقل ركابك عن ربع ظمئت به * * الى الجناب الذي يهوى به المطر
فالطيور تهاجر والحيوانات تمارس التنقل الحُر، والأسماك تسافر آلاف الاميال لكي تضع بيضها، ثم تعود إلى حيث كانت. وكثير ممن تعرضوا للضيق في بلدهم اغتربوا أو هاجروا، كان يحفظ بيت الشعر الذي استقر في والوجدان، كأنه حكمة أبدية :
بلادي وإن جارت علي عزيزة * * وقومي وإن ضنوا علي كرام
حفظ بعض الناس هذا البيت من الشعر ورددوه في غير وعي، لكن فجأة قد يصحو الفرد تحت ضغوط الحياة ووقعها الصعب، فيأخذ بنقيضه، ويصرخ في داخله صوت يقول: “لا … لا.. ما دامت بلادي بل الأحرى حكامها قد جاروا وضنوا عليّ، فلماذا لا أُجرب أرضاً غيرها وأهلاً غير الأهل، ولماذا أٌكلف بلادي فوق طاقتها وأهلي فوق قدرتهم، فيغادر وطنه مغترباً أو مهاجراً حيث تكون هناك حكايات ومغامرات وبطولات فيصنع النجاحات، وهناك بعيداً يولد عشق الوطن من جديد، الذي أبداً لم يخرج من سويداء قلبه.
وهنا يسمى ذلك الذي ساح وطاش في بلاد الله الواسعة مغترباً أو مهاجراً. وهو بذلك يثري الحياة في الوطن، ويشارك في صنع أو إعادة الأمل لكثيرين تركهم خلفه ينتظرون نجاحه، حتى الحكومة التي منعته الكيل في وطنه. نذكر جيداً في أيام العسرة والضيق المالي في السودان أن مسؤولي الحكومة في جهاز المغتربين كانوا يرابطون ويتابعون عملية تحصيل الضرائب وكافة أشكال الجبايات من المغتربين لإسعاف خزينتهم الفارغة. فيمنع هذا من مغادرة البلاد، وذاك من تجديد أو إصدار جواز إلا بعد الوفاء بما عليه من التزامات سميت وطنية.
اليوم وصل المغترب إلى نهاية المطاف، ولا بد من عودة الى الوطن. أما المهاجرون الذين استوعبتهم بلاد الخواجات فقد وجدوا بها قيماً إسلامية وإنسانية فاضلة بلا دولة إسلامية.
وفرت لهم المهاجر حياة كريمة ومعاملة إنسانية جعلت كثيرين يحسون أنهم قد هبطوا على كوكب جديد للإنسانية والرحمة والفضائل، ومن ثم فهم فقد استقروا ولا يتوقع لهم عودة إلى وطن المعاناة، ما دام أنهم يقارنون بين هذا الوطن الجديد وذاك حيث كانوا. أما المغترب فأمره مختلف، فهو محكوم بعقد قائم على الحاجة، ومتى انتفت الحاجة فلا بد أن يغادر إلى حيث أتى، ولا ينفع كم بقي أو عمل فهو ليس في بلد الخواجات الذين ننعتهم بأسوأ الصفات، و يكذبنا سلوكهم تجاه الوافدين إليهم، بعدلهم و مساواتهم وإخائهم في الإنسانية التي تميزوا بها.
نعم انقلب الحال بالنسبة إلى المغتربين، ولا بد من العودة إلى وطن كان يوماً ما مليون ميل مربع ، لكن واحسرتهم، فإنهم سوف لا يجدون إلا نصفه، وفي أطرافه تشتعل النيران، وسيجدون أن ماء نيلهُ قد انحسر إلى القاع، وصار لا يفيض إلا عندما يغضب من الحكام.
رضينا بكل ذلك، ولكن كيف نستوعب كلام من جلس في باب الوطن يعير المغترب بما أكل وشرب ولبس، أو ما حمله معه في عودته من ثوب أو قطعة قماش أو نعل لمحتاج من الأسرة او صديق داخل الوطن.
صحيح ليس من شمِت وعيًر المغترب هو المواطن الذي وقف معه المغترب، ويعرف قيمته ويقدر دوره. للأسف من كشر ولم يرحب بعودة المغترب هو مسؤول جاءت به الغفلة أو المصادفة ليكون مسؤولاً عن خدمة المغتربين، وينطبق علية القول: “إن ما يؤلم الشجرة ليس الفأس، إن ما يؤلمها حقاً هو أن عصا الفأس من خشبها”.
عجباً والله أن يكون صاحب التصريح المعادي وغير المرحب بعودة المغترب هو أمين جهاز تنظيم شؤون السودانيين العاملين بالخارج دكتور كرار التهامي الذي كان مغترباً، إذ قال: “ن الدولة ليست جهة خيرية لتوظيف العائدين”. يا أمين جهاز المغتربين ألم يكن من الأفضل إبداءً لحسن النية أن تقول: “سوف نعمل على تقديم كل ما هو ممكن لتسهيل عودة العائدين”، تطييباً لخاطر العائدين بدلاً من هذا الكلام المؤلم.
فجهاز المغتربين الذي ترأسه ويئن من حملك، خصماً على جاء من عرق جبين الكادحين في غربتهم، والذين يوماً ما حملوا هم الوطن على أكتافهم بصبر وجلد، واليوم ترفل أنت في نعيم جهازهم، وتعاملهم مثل المتسولين!! إني على ثقة أن الوطن والوطنيين لن ينسوا مساهمات المغتربين، فقد كانت تحويلاتهم تغطي متطلبات قفة الملاح لأكثر من نصف أُسر السودان، ومصاريف علاج المرضى، ورسوم تعليم الأبناء، وتمويل انشاء أول قناة فضائية للوطن، ورسوم شق ترع مياه وهمية، وشيكات حج وعمرة لمن حبسهم حابس العسرة، وخدمات تطوير وتحسين مرافق المطار، كل ذلك دون منٍ أو أذى. فلماذا أنت اليوم يا رئيس جهاز المغتربين ترمي في وجوههم مثل هذه العبارات القاسية؟ …. يا أخي أتركهم يواجهون مصيرهم في عودتهم رغم أن الواجب الاخلاقي يلزمك بالسعي والعمل من أجل تسهيل عودتهم، ودمج أبنائهم في المجتمع.
فضلاً لا تجرح أفئدتهم، وتكدر حياتهم بمثل هذه العبارات المؤلمة: ” الدولة ليست مؤسسة خيرية لخدمة العائدين من المغتربين”. لكن نود أن نذكرك أن الدولة منظومة عقد اجتماعي مهمته خدمة المواطن ورعايته، وقطعاً إذا كان للمغترب الخيار في اختيار من يرأس الجهة التي ترعاه، فلن تكون أنت فأفصح يا مغترب.