حدد عبد الرحمن الكواكبي (١٨٥٥ – ١٩٠٢م) أنواع المجد التي ينالها الإنسان، وقال إنها ثلاثة أنواع: المجد ببذل المال، والمجد ببذل العلم، ثم المجد ببذل النفس. النوع الأخير منها، أطلق عليه الكواكبي صفة المجد النبيل، وهو أرفع أنواع المجد، ويحدث عندما يبذل الشخص نفسه ويعرضها للمشاقّ والأخطار في سبيل نصرة الحقِّ وحفظ النِّظام.
فاطمة أحمد إبراهيم (١٩٣٢ – ٢٠١٧م)، عليها الرحمة، قد حظيت بنبالة المجد بلا أدنى ريب.
الكبير والصغير، الرجل والمرأة، المؤيد لمنهجها الفكري والمعارض له، السوداني وغير السوداني، يجمعون على أنها قد بذلت نفسها رخيصة في سبيل رفعة بلدها؛ إذ تبنت من المواقف أصلبها، ولم تحد قيد أنملة عن مناصرة ما تراه حقاً، وفي صدارة ذلك تحرير المرأة السودانية من براثن عادات وتقاليد بالية، ومن أسر مواضعات اجتماعية مهترئة، فضلاً عن دأبها على مناهضة الاستبداد بحسبانه العقبة المستعصية في طريق الأمة صعداً نحو مراقي الأمم العظيمة. قد تختلف الآراء حول المستوى المقبول اجتماعياً من المصادمة في هذا الموقف أو ذاك، لكن ما ينعقد عليه الاجماع أن فاطمة كانت جسورة وكانت مخلصة طوال الوقت لقضايا الشعب السوداني.
دخلت الحياة بجيد تطوّقه قضايا الناس: عموم الناس، والمرأة على الخصوص. قادت أول إضراب للبنات في مدرسة أمدرمان الثانوية عام ١٩٤٩م، ضد قرار المدرسة بحظر مادة العلوم على أساس أن الفتاة السودانية غير مؤهلة ذهنياً للعلوم، والاستعاضة عن ذلك بتدريسها التدبير المنزلي والخياطة. كان ذلك القرار قراراً مستبداً من سلطة استعمارية مستبدة. منذئذٍ أصبح همها الأوحد هو مناهضة الاستبداد. خرجت من أسوار المدرسة وانطلقت لتناهض الاستبداد على نطاق أوسع. هذه المرة، ستقف ضد الحكم العسكري المستبد بكل أشكاله ومسمياته: عبود، ومايو، والإنقاذ.
اعتُقلت، وشردت، وطوردت. ترملت منذ يوليو ١٩٧١م بعدما قام جعفر نميري، في أسوأ لوثة عقلية تنتابه، بإعدام زوجها الشفيع أحمد الشيخ، نقيب العمال، بحجة مشاركته في انقلاب هاشم العطا، وقد ثبت لاحقاً أنه لم يشارك، ولم يؤيد، ولم يتواطأ حتى بالصمت. وعقب إعدام رفيق دربها، وضعت فاطمة تحت الاعتقال المنزلي مدة عامين.
الجسارة جزء لا يتجزأ من تركيبة عقليتها. تزعمت الحركة النسوية المناهضة للحكم العسكري منذ ١٩٦٢م؛ وأصبحت عضواً في جبهة الهيئات بعد ثورة أكتوبر ١٩٦٤م، لتنتخب في ١٩٦٥م يوصفها أول سيدة في البرلمان الديمقراطي. مهام بهذا القدر من الجدية، وفي فترات مفصلية كهذه من تاريخ أمة وليدة، لا شك تقتضي قدراً وافراً من الجسارة والجرأة مع يقين لا يتزعزع بأن النصر قاب قوسين أو أدنى إذا ما خلصت النوايا وصدق العزم.
كانت الاستنارة ديدنها. في مطلع ثمانينيات القرن المنصرم، استأجرت محلاً قريباً من بيت أسرتها بحي العباسية في أمدرمان، وحولته إلى مكتبة أو كشك صغير للصحف وبعض الكتب المستعملة. حدثني الأستاذ عاصم صلاح الدين الخليفة أنه جاء إليها ليشتري بعض المجلات والصحف، ولم يكن ما بحوزته من قروش كافياً، فما كان منها إلاّ أن أقسمت عليه بأخذ كل ما اختاره غير منقوص، بل ذهبت أبعد من ذلك لتزجره وتحثه على أخذها في حميمية يتعذر معها رفض العرض.
كانت إذن تهتم بالاستنارة، وتجعل من السودانيين: كل السودانيين، وخاصة الأطفال والشباب من بينهم، هدفاً محبباً لمسعاها. كانت كمن يملك إحساساً داخلياً بأن إنسان السودان، مثل أرضه، ينطوي على خصوبة فائقة تجعله صالحاً كل صلاح لاستزراع شتى بذور الخير ونمائها. تلك هي الصفة التي يتفرد بها زعماء الاستنارة طوال التاريخ البشري: لقد آمنوا أن الإنسان، أينما كان، يحمل ينبوعاً زاخراً من الخير في دواخله، وهو ينبوع لا ينضب له عطاء.
حقوق الإنسان كانت هاجسها الدائم. اهتمت كثيراً بمحو أمية المرأة السودانية، ومنذ تأسيس الاتحاد النسائي في 1952م، وهو وقت مبكر جداً بالنسبة للمرأة العربية بل وللمرأة في دول العالم الثالث قاطبة. نادى الاتحاد النسائي، تحت قيادة فاطمة، بتحويل المرأة إلى قوة منتجة، ودعت إلى تمكينها من خلال سن تشريعات تتيح لها أجراً متساوياً لعملها الذي يتساوى مع عمل الرجل. كان ذلك التوجه بغيضاً لحركة الإخوان المسلمين حينها، وقد عرفت وقتها بجبهة الميثاق الإسلامي. قالوا إن الإسلام لا يسمح للمرأة بالمساواة. فسروا النصوص المقدسة على هواهم الدنيوي الدنس!!
البسطاء يشكلون حزبها. فقد طالما أظهرت امتعاضاً بلغ حد البكاء بالدموع الغزار وفي عدد من الحوارات المتلفزة، متى تطرقت بالحديث إلى وضع الأطفال المشردين في الشوارع. ظلت تدعو منذ وقت مبكر لمعالجة هذه المشكلة حتى لا تستفحل. انظر اليوم ماذا حدث للأطفال!
حسب تقرير اليونسيف الصادر في يوليو 2017م، هناك 2,3 مليون طفل سوداني يحتاجون إلى مساعدات إنسانية عاجلة. هؤلاء هم ضحايا الإسهالات المائية الحادة، وضحايا سوء التغذية خاصة في مناطق جبل مرة، علاوة على تدفقات اللاجئين من جنوب السودان، والذي يصل معدل الأطفال بينهم إلى 65٪.
فبدلاً من تحويل هذا الكم الهائل من الأطفال إلى طاقات جبارة تسهم في تبديد الظلمات من حولنا، إذا بنا نتهاون في أمرهم، ونتركهم لكرم أهل الخير! بل تجد حكومة الإنقاذ نفسها، منذ مجيئها للسلطة، مشغولةً في حروب عبثية وصفقات مصالحات وترضيات خصوم وعداوت خارجية لا طائل من تحتها. بينما تهدر طاقات هؤلاء الفتية والصبايا الصغار ليحتشدوا حزاماً ناسفاً حول المدن وعلى هامش الحياة دائماً.
بالطبع يلعب الفساد دوراً حيوياً في استحداث هذا الواقع البائس واستدامته. ذلك أن الاقتصاد السوداني كفيل بتوفير الحماية والتعليم والصحة والتغذية لهؤلاء الأطفال إذا ما تحرى القائمون على الأمر حسن إدارة الموارد المتاحة وابتعدوا عن ممارسات فاسدة درجوا عليها واغتنوا من ورائها.
على هذه الخلفية كان صوت فاطمة داوياً مزلزلاً. وكما فعلت شهرزاد في حكاية ألف ليلة وليلة المشهورة، كانت فاطمة تمتطى صهوة الكلمة والعقل والمعرفة لتنقذ المرأة والطفل من الظلم والفساد. لكنها لم تكتف بذلك، فسعت إلى إنقاذ الشعب السوداني برمته من شرور حكام مستبدين برأيهم، مقوضين لمبررات العيش السعيد المشترك لإنسان كان وسيظل عملاقاً بتاريخه، عملاقاً بطموحاته، وعملاقاً بقدراته.
من منطلق تضحيات بهذه الجسامة، ومجد بهذه النبالة، فإن فاطمة أحمد إبراهيم تستحق وقفة الشعب السوداني المعارض وقفة واحدة جسورة تقتلع هذا النظام الفاسد من جذوره. وليكن تشييع جثمانها الطاهر الشريف، المضمخ بحب السودان، شرارة لثورة نهدم بها الهدم ونبني سوداناً جديداً نعتز به جميعاً.
yassin@consultant.com