(1)
وقفنا في سيرة الغواصات عند الحقبة المايوية (فترة نظام جعفر نميري)، وها نحن ننتقل الى حقبة الحكومة الانتقالية، التي نصبتها الانتفاضة الرجبية في أبريل 1985. وتلك حكومة أحاطت بها شبهات “الإستغواص” والاختراق إحاطة السوار بالمعصم، وأحدقت بها من كل صوب. كان أهل اليسار وحلفاؤهم على رأس الزاعقين، الزاعمين أن حكومة الانتفاضة تعج بالغواصات، من قمة رأسها حتى أخمص قدميها. والخفة في إطلاق النعوت، واستسهال دمغ الآخرين بالعلل القادحة، خصلة راكزه عند “السوادنة ” إجمالاً. يكفي ان يُصاب أحدهم بشيء من خيبة الأمل بسبب اتخاذ شخص ما موقفاً يجانف موقفه، ويبدو من ظاهره أنه يقارب موقفاً لتيار مغاير، ولو بفعل الصدفة، حتي “يستغوّصه” ويرميه بكل ما في كنانته من سهام الخيانة والعمالة والارتزاق.
في مقدمة من نالوا شرف الاتهام “بالغوصنة” الدكتور الجزولي دفع الله رئيس الوزراء، الذي اختارته قوى الانتفاضة، الممثلة في التجمع النقابي، بكامل ارادتها الحرة، وعهدت اليه برئاسة الحكومة. فما أن نهض الرجل الى مهمته، حتى هرعت من ورائه ذات القوى التي انتخبته، وعقدت له الرئاسة، فاتهمته بأنه غواصة للجبهة الاسلامية القومية. يليه مباشرةً في الترتيب الدكتور حسين أبوصالح وزير الصحة (ثم الاسكان والخارجية في عهود لاحقة)، والاستاذ عمر عبد العاطي وزير العدل، وكانت اختارتهما ذات القوى للمشاركة في الحكومة، ثم عادت فتشككت فيهما و”استغوصتهما”.
في مرافعة الاتهام أن غواصات حكومة الانتفاضة يجمعها قاسم مشترك، وهو أنها سوّفت، وماطلت ثم امتنعت عن إلغاء قوانين سبتمبر، تحت مظلة الشرعية الثورية. ونادت، بدلاً عن ذلك، بإحالة أمر القوانين برمتها الى برلمان الشعب المنتخب عقب الانتخابات التي كان منظوراً لها أن تجرى في العام التالي. وذلك موقف تماهت فيه بطبيعة الحال مع موقف حزب الجبهة الاسلامية. وهذا التماهي، في عرف اليسار السوداني يسوغ “غوصنة “المشتبه فيهم.
ويبدو لي أن بعض من لحقتهم الشبهات لم يبالوا بها، بل ولم يجدوا فيها حرجاً. وقد قرأت ذات مرة حواراً أجرته إحدى الصحف – إبان الفترة الانتقالية عقب انتفاضة 1985- مع الدكتور حسين أبوصالح، حيث سأل المحرر الدكتور عن زوجته وأسرته، فأجاب بأنهم مثله ناشطون في الحياة العامة. وهنا تابع المحرر متسائلاً عن مجالات نشاط الزوجة والأبناء والبنات فأجاب: (كلهم، ناشطون فاعلون، في مؤسسات الجبهة الاسلامية والحمد لله)!
(2)
عرفت الحقبة الانتقالية غواصات عديدة اخترقت مجموعات العمل التي شكلها المجلس العسكري الانتقالي، وعهد إليها بتصفية جهاز أمن الدولة الأخطبوطي، والتمهيد لإنشاء جهاز جديد. ولعله من نافلة القول أن شبهات “الغوصنة الاسلاموية” كانت قد طالت قادة المجلس العسكري نفسه، وعلى رأسه المشير عبد الرحمن سوار الذهب، والفريق تاج الدين عبد الله فضل، بل وأغرقتهما إغراقاً (وذلك تعبير مجازي، فالغواصات لا تغرق).
وكان من بين هؤلاء من تولى مواقع قيادية في مجموعات العمل المكلفة تلك، فلما قعقع العسكر، واستولوا على السلطة عام 1989 رأينا الغواصات (تبركن) بمحاذة نادي الزوارق خلف القصر الجمهوري، وتخرج من أبوابها الأقمار المنيرة. نكتفي هنا بالإشارة ولا نزيد، فذلك موقف يصح فيه الالتزام بالعبارة الشهيرة المعقود لواؤها لحبيبنا الدكتور عبد اللطيف البوني: (أنا ما بفسر وانت ما بتقصر).
هذا عن الأقمار المنيرة، أما الشخصية التي عُهد اليها بقيادة تلك المجموعة، العقيد آنذاك الهادي بشرى، فلم يكن هو نفسه قد “تغوصن” بعد. ولكن الركبان ساروا بعد ذلك بذكر الرجل و”عواسته” وغواصته بين تنظيمات المعارضة ونظام الإنقاذ.
(3)
يزعم الزاعمون أن جميع أوراق ومستندات وملفات جهاز أمن الدولة ذات القيمة النوعية والحساسية السياسية العالية قد تسربت، صوراً ومضمونات، الى الجهاز السري لحزب الجبهة الاسلامية، إبان مشاركة “الغواصات الإسلاموية” في مهمة تصفية وانشاء الجهاز الأمني الجديد. وكذلك الحال بالنسبة للقوائم التي تحتوى على اسماء المتعاونين مع الجهاز من الشخصيات العامة، وطبيعة ذلك التعاون، وما اكتنفه من عطايا و”تساهيل” مادية لبعض السياسيين.
وقد كان من ضمن هذه الغواصات، كما هو في علم الكثيرين، الرئيس المشير عمر حسن أحمد البشير، حفظه الله، الذي عمل برتبة عقيد، نائباً لرئيس لجنة حصر وتصفية جهاز أمن الدولة المايوي.
كما نعلم جميعاً أن قاعدة البيانات الضاربة التي تملكتها الجبهة الاسلامية (بينما الاحزاب الأخرى غارقة في عسل الديمقراطية)، ربما كانت من ضمن الأدوات الحاسمة التي استغلتها الجبهة في ادارة المساومات السياسية ،وإعادة صياغة وتصميم مسارح الحياة العامة عقب الانتفاضة وقد كانت اللجنة التي وقف عليها العقيد بشرى ونائبه العقيد عمر حسن احمد البشير وغواصاته بمثابة قاعدة الانطلاق التي قام عليها (جهاز أمن السودان).
ومن عجب أن ذلك الجهاز الذي جرى تشكيله بغرض حماية النظام الديمقراطي أسهم بقدح معلّى في تدبير وتنفيذ الانقلاب “الانقاذوي”، إذ كان عدد من قادته و”كادراته” والغون حتى الآذان في مؤامرة الانقلاب.
ولعل تلك من المرات النادرة في التاريخ التي يُسند فيها أمر تشكيل الكيان المسؤول عن حماية الحكومة وحراسة أمن البلاد القومي الى غواصات. وفي مثل هذا يقول أحبابنا في المحروسة: “سلموا القط مفتاح الكرار”. والكرار، ومصدره في اللغة القبطية القديمة “كراريون”، أو “كلاريون”، هو المخزن الذي تحفظ فيه المؤن الغذائية!
(4)
الغواصات نوعان، اولاهما يقتصر غوصه على حقبة واحدة، أما النوع الثاني فيتمثل في الغواصات العابرة للحقب. ويعتبر المغفور له الاستاذ عباس ابراهيم النور – وهو مثقف وسياسي سوداني رفيع – من النوع الثاني. وكنت قد طلبت من هذا الحبيب الغواصة قبل وفاته بفترة قصيرة، في غضون مراسلات كانت مستطردة بيننا، أن يشرع في كتابة مذكراته، وألححت عليه في ذلك، وذكرته بأنه يحمل في صدره جزءاً عزيزاً، يمتد الى نصف قرن، من تاريخ السودان السياسي.
عرفت الساحة عباس واحداً من الطلائع الأولى لحركة القوميين العرب في السودان، وأحسب ان التعبير الأكثر صدقية هو أنه من مؤسسي وقادة جماعة (الناصريين) السودانيين. وقد أخلص الرجل للقومية والناصرية، عقيدةً فكرية وانتماءً سياسياً، الاخلاص كله. وناضل في سبيل إعلاء راياتها وبناء دولتها نضالا باسلاً.
ويستتبع ذلك بالضرورة أنه كان وثيق الصلة بالخلايا التي دبرت انقلاب مايو 1969 بحكم قربه الاستراتيجي من القيادات العروبية المتآمرة على النظام الديمقراطي، وفي مقدمتها رئيس القضاء ورئيس الوزراء الاسبق بابكر عوض الله. ونعلم اليوم – والحقائق والوثائق متاحة على مرمي “نقرات فارات” الحواسيب – أن تلك العناصر العروبية كانت تعمل آنذاك بتنسيق مباشر مع المخابرات المصرية، وبتمويل من بنك مصر في الخرطوم، وقد كان على رأسه الاستخباري محمد عبد الحليم، الذي تولى وزارة المالية لفترة قصيرة. (جرى تغيير إسم بنك “البصاصين” هذا في وقت لاحق الى بنك الشعب التعاوني).
وسنأتي الى سيرة هذا الغواصة، رحمه الله، بشيء من التفصيل في الحلقة القادمة من هذه السلسلة بأمر الله.
*كاتب صحافي مقيم في الولايات المتحدة