(1)
وقفنا في مقال سابق عند “الغواصة” المغفور له الأستاذ عباس ابراهيم النور. وهو مثقف وسياسي سوداني رفيع من نوع “الغواصات” العابرة للحقب. وقلنا أننا كنا قد طلبنا من هذا الحبيب قبل وفاته بفترة قصيرة، في غضون مراسلات كانت مستطردة بيننا، أن يشرع في كتابة مذكراته وألححنا عليه في ذلك، وذكرناه بأنه يحمل في صدره قسطاً عزيزاً يمتد الى نصف قرن من تاريخ السودان السياسي. ولكن إرادة المولى عجلت برحيله، نسأل الله له الفردوس الأعلى. وذكرنا أن الساحة عرفت عباس واحداً من الطلائع الاولى لحركة القوميين العرب في السودان، وأنه كان بحكم كونه من قادة التنظيم الناصري وثيق الصلة بالخلايا التي دبرت انقلاب مايو 1969.
(2)
تسنم الأستاذ عباس ابراهيم النور منصب رئيس الدائرة القانونية والمستشار القانوني لرئيس مجلس الشعب في الحقبة المايوية(فترة الرئيس السابق جعفر نميري). وربما كان بعض الهوى الناصري قد تخثّر وذوى في قلب صاحبنا في نهاية السبعينيات، عندما أقنعه الاستاذ على عثمان محمد طه والشيخ أحمد عبد الرحمن محمد، اللذان انسربا الى داخل البرلمان المايوي عقب المصالحة الوطنية، الأول كان رائداً لمجلس الشعب والثاني رئيساً لإحدى اللجان الهامة، بأن (يتغوصن) للحركة الإسلاموية.
ولا شك عندي في أن الحركة الاسلامية قد استفادت فائدة عظمى من وجود هذا الرجل على قمة الجهاز القانوني لمجالس الشعب المايوية في صياغة وتمرير التشريعات التي لاءمت برامجها وخططها. كيف استطاعت الحركة أن تجند و”تغوصن” هذا الناصري الأصيل، وأن تتحكم من خلاله في المسارات التشريعية والقانونية داخل البرلمانات المايوية؟ الله أعلم.
عقب انتفاضة إبريل 1985 قام الاستاذان على عثمان محمد طه وأحمد عبد الرحمن محمد بمراجعة قائمة مرشحي الجبهة الاسلامية القومية لدوائر الخريجين. ثم، ودون أن يطرف لهما جفن، قام أحدهما بشطب اسم المرشح الدكتور حسن مكي، وأضاف في مكانه اسم الاستاذ عباس ابراهيم النور. وجرى اعلان اسم الرجل ضمن قوائم المرشحين. وعينك ما تشوف النور! إذ كان خروج هذا “الغواصة” من مركبته البرمائية الى العلن مفاجأة اذهلت الاسلاميين، قبل ان تدهش الناصريين والمايويين. وكان الأكثر مدعاة للاستغراب فوزه بسهولة تامة في تلك الانتخابات ممثلاً للجبهة الاسلامية القومية.
والحق أن اداء الرجل البرلماني خلال حقبه الديمقراطية الثالثة تحت راية الجبهة الاسلامية كان متميزاً بحكم خبراته العلمية والمهنية، وتمرسه ونضجه وكثافة محصوله الثقافي. وكذلك كان اداؤه السياسي الحزبي. إلا أن ذاكرتي أعيتني في مسعاي لاستدعاء طبيعة الدور الذي لعبه في قضية دعوة واستضافة القيادي الشيعي العراقي مهدي الحكيم في الخرطوم عام 1988، ومعلوم أن مهدي الحكيم اغتيل داخل فندق هيلتون الخرطوم في يناير من ذلك العام. وقد رأيت اسم هذا الحبيب “الغواصة” يتكرر عشر مرات في اوراق تحقيقات إدارة الامن الداخلي بوزارة الداخلية التي تم رفعها الى مكتب رئيس الوزراء.
ومن عجب أن الجبهة الاسلامية كانت قد دعت الرجل الى الخرطوم فكان ضيفها، فلما جرى اغتياله وتعرفت السلطات على القاتل بصورة قطعية وبأدلة دامغة ورفعت جهة التحقيق والتحري نتائج التحقيقات لوزير الداخلية وللنائب العام، الدكتور حسن الترابي آنذاك، سارع النائب العام رحمه الله بصياغة بيان اذاعته وزارة الداخلية جاء فيه أن السلطات لم تحصل على أدلة كافية بخلاف بعض الشبهات، ثم تم اغلاق الملف!
وهكذا ذهب الزعيم الشيعي الكبير الى قبره فطيساً، أو بالأحرى قرباناً لعلاقات السودان بالزعيم العراقي صدام حسين، الذي كان الوحيد من بين الرؤساء العرب الذي يؤازر السودان عهدذاك في حربه الضروس ضد قوات الحركة الشعبية لتحرير السودان المستنصرة بأثيوبيا منقستو وبالغرب ومؤسساته الصليبية والصهيونية العالمية.
(3)
وفي عهد حكومات الديمقراطية البرلمانية الثالثة كان الأستاذ عباس ابراهيم النور يُشاهد يومياً، وبصورة منتظمة، وهو يجلس على مقعد بعينه على طاولة الاجتماعات الرئيسية بمكتب وزير الثقافة والاعلام الاستاذ عبد الله محمد احمد القيادي بحزب الأمة، والذي كان هو نفسه قد بدأ حياته السياسية في الخمسينيات ضمن حركة الاخوان المسلمين (ظلت شبهة “الغوصنة” تلاحق الاستاذ عبد الله نفسه طيلة حياته السياسية، التي ختمها ملتحقاً بجماعته الأصل عقب انقلاب العصبة المنقذة، حيث استوزر في البدء ثم “استسفر” أي صار وزيراً وسفيراً). ولم يكن يخالجني شك في أن الاستاذ عباس ابراهيم النور هو الذي كان يدير شئون الوزارة وقتذاك، ويحرك كل شيء فيها من وراء ستار، برغم وجود وزيرها الأصلي. وربما كان مكلفا بذلك من حزبه!
وقد وفقت العصبة المنقذة توفيقاً عظيماً عقب انقلابها مباشرة في اختيار عباس سفيرا في طرابلس، حيث وظف كل مهاراته وخبراته ومعارفه واتصالاته بقدامي الناصريين والقوميين في التقرب من النظام الليبي واقناع قيادته بالتعاون مع الانقلاب، وقد كان. واثناء سفارته الفاعلة في ليبيا تحول القذافي الى حليف قريب وداعم للنظام على الأقل خلال السنوات الأولى.
كذلك لم استغرب عندما دار الزمان دورة كاملة، فاستدعاه صديقه، صانع “الغواصات”، الذي جنّده و”غوصنه” في المبتدأ، الاستاذ على عثمان محمد طه، عند توليه منصب النائب الأول للرئيس، وعهد اليه بمنصب المستشار الإعلامي لرئيس الجمهورية.
نسأل الله سبحانه وتعالي أن يتقبل من حبيبنا عباس إبراهيم النور “غِواصته” و (عواسته) في تاريخ السودان خلال نصف القرن الماضي. وأن يكتب له صوالحها في كتاب الأعمال الصالحات، وأن يغفر له ما دون ذلك، والله ذو فضلٍ عظيم، وسعت رحمته كل شئ.
(4)
في العام 1996 هبط بالعاصمة الاريترية، أسمرا، أخ سوداني كريم سأكتفي بالإشارة الى اسمه بالحروف الاولى (ن أ). قدم الرجل نفسه، باعتباره ضابطاً سابقاً في قوة نظامية، الى قوات التحالف السودانية التي كان يتزعمها العميد عبد العزيز خالد، معبّراً عن رغبته في الالتحاق بسلك المعارضة المسلحة.
بعد التحاق الأخ (ن أ) بصفوف قوات التحالف بفترة وجيزة، فوجئت جموع المعارضين باعتقاله وسجنه، ثم ببيان من قيادة التحالف، وجد طريقه الى بعض الفضائيات والصحف العربية، يُنهي الى الكافة أن المعتقل لم يكن سوى “غواصة “بعث بها النظام لاختراق صفوف المعارض. ونشرت صحيفة (الشرق الاوسط) وقتها على مساحة صفحة كاملة ما وصفته بأنه نص التحقيق الذي جرى مع ذلك “الغواصة”، وفيه يسجل اعترافات تفصيلية عن انتمائه والتكليف الذي تلقاه بالغوص داخل تنظيم التحالف. وبين يدي نص ذلك التحقيق وقد لاحظت في متنه ركاكة ظاهرة ومعلومات يبدو الافتعال فيها جلياً.
وقد تنوعت إفادات اعضاء التجمع المعارض في اسمرا بعد ذلك حول مصير ذلك الرجل. ذكر البعض أنه تم اعدامه بواسطة قوات التحالف، بينما يعتقد آخرون انه ما يزال قابعا في إحدى سجون أسياسي افورقي. وكنت قد سألت الحبيب “البصاص” الأكبر الفريق أول صلاح قوش شخصياً ذات مرة عن هذا “الغواصة” المزعوم فنفى نفياً باتاً أن يكون جهاز الأمن والمخابرات قد ضم في عضويته ضابطاً أو فرداً بالاسم المتداول “للغواصة المزعوم”. وكان الفريق قوش يشغل عند ظهور أخبار “الغواصة” المزعوم في الإعلام العربي موقع مدير مصنع اليرموك للإنتاج الحربي.
(5)
خلال ذات الفترة الزمانية عرض تلفزيون ام درمان شريط فيديو أثار ضجة هائلة داخل البلاد وخارجها. جرى تصوير ذلك الشريط في إحدى معسكرات الحركة الشعبية لتحرير السودان داخل احدى (المناطق المحررة)، وفيه تظهر القيادية الشيوعية الراحلة الكبيرة الاستاذة فاطمة أحمد ابراهيم، تغمدها الله بواسع رحمته ومغفرته، وهي تتحدث الى مجموعة من المقاتلين حديثا انفعالياً ساخناً وناقداً حول الأوضاع السياسية في معسكري المعارضة والنظام. وقد تسبب عرض الشريط في حرج كبير للحزب الشيوعي وللتجمع الوطني بوجه عام، حيث كانت الأستاذة فاطمة قد تفوهت بعبارات قاسية، بالغة الحدة، في حق بعض زعماء المعارضة، وعلى رأسهم الامام الحبيب الصادق المهدي ومولانا السيد محمد عثمان الميرغني.
توصلت المجموعات المتناثرة في اريتريا ومصر بعد ذلك الى أن شريط الفيديو تم الاستيلاء عليه من عرين إحدى الحركات المسلحة، ثم تسريبه وتسليمه الى جهاز الأمن بواسطة “غواصة” ظلت سابحة لسنوات في أعماق محيط المعارضة الهادر. وقد أدت تلك الواقعة الى الإزراء بالروح المعنوية لهؤلاء بوجه لا يمكن تجاوزه.
وسنعرض، في الحلقة القادمة من هذه السلسلة، الى تفصيلات هذه الواقعة التي أحدثت شرخاً كبيراً في كيان تنظيم التجمع الوطني المعارض عهدذاك. ونبذل البيانات المتوفرة لدينا عن شخصية “الغواصة” الذي قام، أو قامت، بتسريب شريط الفيديو الأغبر من أسمرا وتسليمه الى “البصاصين” والجلاوزة في الخرطوم.
*كاتب صحافي مقيم بالولايات المتحدة
mustafabatal@msn.com