يظن حميدتي لقبليته المفرطة أن الإدارة الأهلية أو
بقاياها في الحقيقة تمثل الشعب السوداني، وهو الذي يعلم ثمن أي واحد من هؤلاء
الذين أتى بهم ليمثلوا شيئاً ليس موجوداً إلا في خياله.
ويعتقد حميدتي أنه يستطيع بشراء ذمم الآكلين على موائد السلطة ممن يظنون أنهم يمثلون وزناً في مجتمعهم، وبعض المدعين ممن ولجوا عالم الصحافة والإعلام من الأبواب الخلفية، بعد أن غادر أهل المهنة الحقيقيون إلى الخارج فارين من الدكتاتورية فرار السليم من الأجرب، أو لزومهم الصمت احتراماً لتاريخهم، أو مكابدتهم ومواجهتهم الدكتاتورية بكل قوة، راضين بدفع الثمن، أو بشراء بعض من أساؤوا إلى السياسة السودانية بأحزاب كرتونية، أو من باعوا أحزابهم العتيقة ورضوا بشق صفها، يظن حميدتي بأنه سيكون شيئاً مذكوراً بدعم هؤلاء أصحاب الذمم الخربة، الذين لا يعرفون غير التبعية لمن يدفع، ويفرون منه حين يقع، وقد باعوا البشير في ثانية، وهم الذين أكلوا على مائدته ثلاثين عاماً، وكانوا سبباً في أن تكون دولة الإنقاذ بكل جبروتها وصلفها فاشلة بامتياز، وفاسدة تزكم الأنوف على بعد ملايين الأميال.
ويتخيل حميدتي أنه بهذه التمثيلية التي لا يمكن أن يرضى بمستواها أقل الممثلين موهبة سيقنع العالم بشعبيته، وهو هنا يقلد البشير تارة، ويحاول تارة استدعاء تجربة عسكر آخرين، والفارق كبير بينه وبينهم، فأولئك من أبناء القوات المسلحة وصلبها، بينما يحاول هو أن يتلبس شخصية العسكري، وفي قرارة نفسه يدرك تماماً أن النياشين والأوسمة لا توجد عسكرياً من العدم، فكل مجال محترم مثل العسكرية له مساره المعروف، الذي لا يعترف بعطايا وهبات من رئيس أو سلطة.
ولا أدري أين البرهان الذي يفترض أنه يرأس المجلس العسكري،
وقد ترك الحبل على الغارب، ليعبث حميدتي يمنة ويسرة ضارباً وجنوده عرض الحائط
بالقوانين والنظم، بينما يلوكها بلسانه ليل نهار، مجسداً تماماً قول الشاعر:
يعطيك من طرف اللسان حلاوة.. ويروغ منك كما يروغ
الثعلب
ويصاب المرء بالغيظ وهو يرى رجلاً يمشي بالفتنة بين
أهل السودان، ويمارس إقصاء الأغلبية الكاسحة، ويضع مصلحته الخاصة فوق كل مصلحة،
يدعو بكل بجاحة “إلى كلمة سواء” ويطالب “بالتصدي للشائعات والفتن، وتعلية
مصلحة الوطن على المصالح الشخصية العامة”، ويحذر “من خطورة جر البلاد إلى الفوضى”.
وأرى أن هذا الشخص لديه “قوة عين” تفوق
الوصف، فمن يتورط مثله في جريمة نكراء في شهر رمضان الفضيل شاهدها وشهد بها
العالم، كان عليه أن يتوارى خجلاً، وأن يترك الساحة التي ولجها في غفلة من الزمن، وأن
يطرق أي باب للتوبة بدلاً من أن يتطلع إلى قيادة البلد بأرضه وناسه، وقد أبهر
ثواره الدنيا بقيمهم ومثلهم، ونقاء ثورتهم، بل بفنونهم وثقافتهم ورقي أساليب
تعبيرهم، وجاء هو بعد ما مارسه من تقتيل ليحاول تشويه هذه الثورة النبيلة بكلام
وأفلام سيئة الإخراج تسبب الغثيان، والقرف.
إذا كان نظام الإنقاذ جمع الرجرجة والدهماء بعد أن دب
الخلاف بين الانقلابيين من الإسلامويين سارقي السلطة، فإن المجلس العسكري يريد أن
يكون هؤلاء هم الساس والرأس من البداية، فأي نظام يمكن أن يصنعه أصحاب الذمم
الخربة، وحارقو البخور، بقيادة مجموعة من القتلة وقاطعي الطريق؟
ويبدو أن حميدتي يريد أن يجمع بين القبلية والحداثة،
وتتمثل الأخيرة في استعانته بالنائب الديمقراطي السابق عن ولاية فرجينيا جيم موران،
الذي يقود مع ستيف ريان شركة “ماكديرموت ويل آند إيمري” للعلاقات العامة
التي تعمل على تشكيل الصور الذهنية للدول والقيادات المتطلعة مثل حميدتي، الذي أتي
بالرجل في جمع من الناس لينادي المجتمع الدولي بترك أهل السودان يقررون مصيرهم،
كأنه يريد أن يترك الساحة لحميدتي الذي تمارسه قواته إذلال الشعب باقتحام
الجامعات، وانتهاك حرمات المنازل.
ويظن مستشارو حميدتي أن مثل هذه الشركة يمكن أن تجمل صورته، وهي بالطبع معنية بالعالم الخارجي، لإدراكهم أن لا مجال للتجميل في الداخل، إذ لا يمكن أن ينسى السودانيون مشهد الدماء الزكية التي سالت على أيدي قواته بلا ذنب.
إن ثورتنا النبيلة ماضية إلى غاياتها غير آبهة بتطلعات
أصحاب الأخيلة المريضة، ولا بالواقفين على الأرصفة لتسول نفوذ أو نقود، ولا بأحلام
عسكر يظنون أنفسهم خلقوا ليحكموا، ولا بمراهنات آخرين لهم مصالحهم الخاصة التي لا
تعبأ بأحلام أهل السودان ولا آمالهم في حكم رشيد يضع بلدهم على خريطة الدول
الديمقراطية التي تمضي نحو الغد بعيون وقلوب مفتوحة، وبإيمان راسخ بأن هذا الوطن
يستحق حياة كريمة، فيها “الحرية والسلام والعدالة” واقع لا حلم.