انطلقت الثورة في كل أنحاء السودان، معبرة عن أشواق السودانيين في الحرية والسلام والعدالة، لتنهي مسيرة ثلاثين عاماً من الإستبداد والطغيان، وتُسقط البشير ونظامه الاسلاموي، فمن نافلة القول لم تكن ثورة ديسمبر وليدة اللحظة بل جاءت تتويجاً لتراكم نضالات شعبنا واكتمال الشروط الذاتية والموضوعية. لقد وحدت الثورة إرادة الشعب السوداني، ووضعت البلاد على منصة النهوض والانطلاق والتحول الديمقراطي، وأبرزت الانسانيات السودانية، وعبرت عن الوجدان الجمعي والمكنون الثقافي لأمة ذات هوية جامعة، وبذلك شكل ميدان الاعتصام ملحمة صهرت السودانيين بكل إنتماءاتهم في بوتقة ولوحة زاهية تشريب نحو آفاق المستقبل، وانتجت الثورة مشروعها الذي جسد التلاحم الشعبي ومقاصد الثورة وملامح المشروع الوطني.
لم يكن النظام المباد نظاماً طبيعياً وطنياً وإنما مشروعاً ظلامياً ارهابياً، فلم يكفيه سنوات الإستبداد والقهر والعنف والحروب ليعيد حساباته السياسية ويستجيب لإرادة الشعب، وإنما عّمد على قطع الطريق أمام الثورة بتحريك عناصر الدولة العميقة سيما في المؤسسة العسكرية ابتداءا بفض الاعتصام في مجذرة دامية راح ضحيتها مئات الثوار، لتلتحم صفوف الثوار من جديد لحماية ثورتهم في مليونيات 30 يونيو التي أجبرت المجلس العسكري للتراجع وابرام إتفاق سياسي ووثيقة دستورية إنتقالية، وظلت الثورة المضادة تعرقل الإنتقال والتحول الديمقراطي، بلغت قمتها في إنقلاب 25 أكتوبر الذي أعاد عناصر النظام المباد للحكم من وراء ستار، وكانت إرادة وصمود الشعب أكبر ودفع ثمناً باهظاً في تعطيل وإفشال الانقلاب، وحفاظاً على مكاسب الثورة انتظمت عملية سياسية لإنهاء الانقلاب واستعادة مسار الثورة والانتقال المدني الديمقراطي، في الوقت ذاته استمرت تعبئة قوى الظلام لإجهاض الثورة بتحالف ضمني مع قوى اختطاف الثورة لتبديد حلم السودانيين في الحرية والسلام والعدالة، والعودة للحكم من جديد عبر بوابة الحرب.
جاءت حرب الخامس عشر من أبريل بين طرفي الانقلاب التي اشعلها النظام المباد مستغلّاً الخلاف بينهما لإستهداف مقاصد ثورة ديسمبر بالأساس، لتدخل البلاد في حرب لا هوادة فيها دمرت البنية التحتية للوطن والبنية الفوقية للإنسان السوداني بفتق النسيج الإجتماعي وبث خطاب كراهية وعنصرية وتجيش وتحريض وقتل على أساس الهوية لتحويلها الي حرب أهلية تضع بقاء الدولة السودانية في المحك.
خلفت الحرب تداعيات كارثية غير مسبوقة في العالم، تهجير قسري للملايين خارج وداخل السودان في ظروف ماساوية، قتل الآلاف، إهانة وضرب لكل القيم والأعراف، اغتصاباً وتعذيباً وتوحشاً، تجويعاً، استقطاباً اثنياً وسياسياً، وتدخل إقليمي ودولي خبيث يؤجج القتال، ومازال النظام المباد – الذي عاد فعلياً الي الحكم على جماجم السودانيين – يعمل جاهداً على استمرار الحرب ويعرقل أي جهود للسلام.
كل مؤشرات إستمرار الحرب تؤكد ان مآلاتها تنحدر بسرعة البرق نحو تقسيم السودان والفوضى وانهيار الدولة، في ظل خلافات حادة داخل معسكر الحرب تكالباً على السلطة، وتعثر وحدة قوى الثورة والتغيير والتحول الديمقراطي، وتنافس الأطراف الإقليمية والدولية على مصالحها ونهب موارد السودان.
تمر علينا الذكرى السادسة لثورة ديسمبر المجيدة، وحرب الخامس عشر من أبريل تكمل عشرون شهراً ولا حـل منظور في الأفق، والتعنت والاصرار على الحسم العسكري سيد الموقف لقناعة مشعلي الحرب أن الحل السياسي مدخلاً لإستعادة زخم الثورة من جديد.
ثورة ديسمبر مازالت باقية وحية في عقول وقلوب السودانيين ومنتصرة لا محالة بإذن الله ولو بعد حين، ومهما تعرضت للتأمر واستغلال الانتهازيين لضرب الثورة، ورغم ما افرزته الحرب من تداعيات ومآلات فإن إرادة الشعب أقوى في إنتاج واقع جديد فهي كطائر العنقاء تخرج من رحم المعاناة ورماد المأساة لبناء سودان الحرية والسلام والعدالة.
صحيح؛ أن هذا يتطلب إلتحام قوى الثورة والتغيير ورص الصفوف وتوحيد أدوات النضال السلمي والصوت المدني الديمقراطي في جبهة مدنية عريضة والانخراط في مائدة مستديرة تضع حداً لمعاناة وعذابات الشعب السوداني وتحقيق تطلعاته المشروعة في الحرية والسلام والعدالة، وهذا ليس ببعيد، فقد انتظمت جهود حثيثة لقوى الثورة بقناعة كاملة تؤكد بأن ليس هناك حل عسكري وأن مخاطر إستمرار الحرب تستدعي إرادة وطنية خالصة لخلاص الوطن وأن عودة النظام المباد للسلطة على فوهة البندقية تستوجب إستعادة زخم الثورة من جديد لمجابهة مخاطر تقسيم السودان.
أمام قوى الثورة والتغيير فرصة لوقف الحرب وتحقيق مقاصد ثورة ديسمبر المجيدة رغم التعقيدات الداخلية والتحولات الإقليمية والدولية، فمهما بلغت التحديات فإن الرهان قائما على إرادة الشعب وثورته فهي بلا أدنى شك عصا موسى التي تلقف ما يأْفكون.