التلطّفُ في الكلام أزْيَن بالكرام

التلطّفُ في الكلام أزْيَن بالكرام
  • 16 فبراير 2025
  • لا توجد تعليقات

د. عثمان أبوزيد

من خصال الكرام جمال الأحدوثة والتلطُّف في الكلام. وأشبه بأهل الفضل أن يجنبوا خطابهم ما يُستبشع في القول ويُستفظع في السمع.
جاء في سير أعلام النبلاء:
قال جرير بن عبد الله البجلي: كنت عند عمر فتنفس رجل أي أحدث، فقال عمر: عزمت على صاحب هذه لما قام فتوضأ، فقال جرير: اعزم علينا جميعا، فقال عمر: عزمت عليَّ وعليكم لما قمنا، فتوضأنا ثم صلينا.
وزاد بعضهم: قال عمر: نِعمَ السيِّدُ كنت في الجاهلية، ونعم السيد كنت في الإسلام.
انظر إلى التلطف وجمال الأحدوثة، كرهوا التعبير عما فعل الرجل في المجلس بما يُكره، فقالوا عنه: تنفَّس! تلطفٌ ليس في التعبير فحسب بل في فعل الجميل أيضًا حين يعزم عليهم عمر رضي الله عنه ليقوموا جميعًا ويتوضؤوا بحسب ما أشار به عليهم البجلي.
الأصل في خطاب النبلاء والعقلاء لزوم الأدب القرآني: “وقولوا للناس حسنا” (سورة البقرة، من الآية 83). جاء في تفسير ابن كثير: أي: كلموهم طيبا، ولينوا لهم جانبا، ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعروف، كما قال الحسن البصري في قوله: “وقولوا للناس حسنا” فالحسن من القول: يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحلم، ويعفو، ويصفح، ويقول للناس حسنا كما قال الله، وهو كل خلق حسن رضيه الله.
فالإحسان فعلا وقولا مأمور به في كل حال، بما في ذلك حال الاحتساب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وإذا كان هذا هو الأصل الأصيل في أخلاق العقلاء والنبلاء، فإنه يجوز لمن مسَّه ظلم أن يدفع عن نفسه بالسوء من القول، شريطة عدم التجاوز.
من تفسير البغوي قولَ الله تعالى: “لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم” يعني: لا يحب الله الجهر بالقبح من القول إلا من ظلم، فيجوز للمظلوم أن يخبر عن ظلم الظالم وأن يدعو عليه، قال الله تعالى: “ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل” (الشورى: 41)، قال الحسن: دعاؤه عليه أن يقول: اللهم أعني عليه اللهم استخرج حقي منه، وقيل: إن شُتِم جاز أن يشتم بمثله لا يزيد عليه.
هذا المنهج الواضح في لين الكلام والتلطف فيه هو ما سبق إليه التراث الإسلامي، فاستخدام المصطلح قديم قبل الـ “يوفيميزم” EUPHEMISM في علم الدلالة الحديث، ولعل ابن قتيبة (ت 276) أول من استخدم مصطلح التلطف في التراث اللغوي العربي، إذ وردت الكلمة في كتابه المعروف بـ “عيون الأخبار”، والأمثلة مستفيضة في التراث العربي والإسلامي وهي أكثر من أن تحصى.
وتمثَّل الكثيرون بمن اشتهر بحدة اللسان حتى قال أبو العباس بن العريف (ت 536) عن ابن حزم الظاهري: “كان لسان ابن حزم وسيف الحجاج شقيقين”، ووصفه ابن حيان بأنه: “لم يك يلطّف صدعه بما عنده بتعريض، ولا يرقّه بتدريج، بل يصك به مُعارِضه صك الجندل”.
هكذا يكون البعض من الناس؛ فيهم العنف اللفظي؛ عنف في العبارة وعنف في الإشارة (الاثنان معا لغة اللسان ولغة الجسد).
لا بد من كبح العنف حتى يحصل الاستقرار، فالعنف كامن في الناس يستثيره البعد عن التلطف في الحديث. ونحن أحوج ما نكون إلى التلطف في أوقات الشدة والأزمات. وليت القادة والمتكلمين على المنابر يلزمون أنفسهم به، ويستعينون في إعداد أحاديثهم بمستشارين مأمونين، دونما حاجة إلى ارتجال الخطب:
ويرتجل الكلام وليس فيه
سوى الهذيان من قول الخطيب…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

*