مؤانسة رمضانية “1”

رمضان كريم…وكل سنة وانتم طيبين، وأسال الله أن يعيد عليكم رمضان المبارك وأنتم “تامين ولامين”..وهذا دعاء سوداني بليغ وشامل ، أن تدعو للناس أن يكونوا تامين، أي مكتملي العدد لا ينقصهم فرد عزيز، ولامين، أي متجمعين معا غير متفرقين.
هذه مساحة للأنس والمؤانسة سأحاول أن أجعلها يومية خلال الشهر الكريم، وكنت في سنوات العمل بالصحف أكتب خلال شهر رمضان عمودا يوميا اسمه “حلو مر” وهو، للناطقين بغيرها، مشروب رمضاني سوداني خالص. ستكون هذه المساحة مثل ذلك العمود، مساحة للونسة عن الفن والأدب والثقافة والحياة الاجتماعية، بعيدا عن ساس يسوس، كما أن المساحة متاحة للمشاركة ممن يرغب أو يريد، دون إيجار أو خلو رجل. فإلى الافتتاحية:
حين تنشد ابنتنا الجميلة آلاء قدور أنشودتها الرمضانية الرائعة ” رمضانا سوداني…وسودانا يحلا في رمضان” فهي أيضا تختصر تفاصيل ومعاني كثيرة جدا. مؤكد أننا لا يمكن أن نحتكر رمضان ونجعله سودانيا حصريا، ولكن لرمضان في كل بلد ملامح خاصة، وطقوس متعددة، يفتقدها كل من تضطره الظروف ليحضر رمضان في بلد آخر وبيئة أخرى.
رمضان السوداني شهر اجتماعي بامتياز، يتبادل الناس الزيارات والإفطارات بشكل مكثف، ويلتقي أفراد الاسر الكبيرة الممتدة، في رمضان، بشكل متكرر لا يحدث في أيام السنة الأخرى.لكن حتى في السودان فإن لرمضان طعم حسب المنطقة، وله طقوس متعددة، وبالذات في أرياف السودان الممتدة شمالا وجنوبا، شرقا وغربا.
أكرمنتني الظروف وصمت رمضان في بلاد عديدة، لكل منها طعم. كانت التجربة الأولى في مصر أيام الدراسة الجامعية، ورمضان المصري تجربة بهيجة جدا ربما جربها وعاشها معظم السودانيين.
ثم ذهبت لاكمال الدراسة ببريطانيا، وكان النهار طويلا، يحين الإفطار حوالي العاشرة ليلا إلا قليلا، وحين تفطر وتشرب الشاي والقهوة يحين موعد النوم، فهناك محاضرات صباحية بشكل يومي. ولم تكن المشكلة في العشاء أو السحور، ولكن إحساسي نهار اليوم التالي بأني لم أشرب كمية كافية من الماء، ولذلك كان هناك إحساس دائم بالعطش رغم أن الجو لم يكن حارا، لكن ربما هو احتياج نفسي أكثر من عضوي.
خفف لطف الناس حولي من تعب الصيام. كنت المسلم الوحيد بينهم، وحالما ما عرف أساتذتنا وزملاؤنا الطلاب بأني صائم حتى صرت محل رعايتهم وعنايتهم، إذا دخلت مكاتب الإدارة يسرع كل فرد ليعطيني كرسي للجلوس ، يسألني كل من يقابلني إذا كنت أشعر بالجوع أو العطش.
صباح اليوم في كمبالا حياني سائق البودا “الموتر أو الموتوسيكل” وهو وسيلة المواصلات الرئيسية في كمبالا، وهو من الذين يعملون باستمرار في الشارع الذي نسكنه ويحفظ معظم السكان. تحدث معي عن رمضان والصيام، وانتظرني أمام السوبرماركت/ بمثلما فعل بالأمس. في طريق العودة وأنا محمل ببعض المشتريات سألني: أو ليس هذا الشهر الصوم..؟ أجبته بنعم. فقال أنه وأثناء انتظاره كان المحل مزدحم بالسودانيين والعرب وكل منهم يخرج محملا بكميات من المواد الغذائية، ثم تساءل : هل هو شهر الصوم أم شهر الأكل..” فبهت الذي اشترى…وهو أنا.
هذا نقاش قديم ومتجدد عن ارتفاع حمى الاستهلاك في رمضان، وبمثلما شاهدته وعايشته، وشاركت فيه في السودان، شاهدته أيضا في مصر والسعودية والأمارات، وربما في بلاد أخرى لم يقيض الله أن أحضر فيها رمضان. هناك حالة أقرب للهلع.
يقبل المصريون على الزبادي في رمضان للسحور، حتى يبدو أنه من الفرائض، وذات مرة علق صديق لي وهو يمر أمام سوبرماركت ضخم في الدقي كان يعرض أمامه ما أسماه صديقي بجبال من الزبادي. فأجبته أن ياتي بعد ساعات من الإفطار ليرى أين ذهب ذلك الجبل.
وبمناسبة المقارنة مع مصر فهناك مفارقة مدهشة في مسألة الفول، شريان الحياة الذي يربط بين البلدين والشعبين مثله مثل النيل. يختفي الفول من مائدة الإفطار في مصر خلال شهر رمضان بشكل مدهش، لكنه يحضر في السحور. يندهش المصريون من حضور الفول في مائدة الإفطار السودانية. والحقيقة أن إفطار رمضان في مصر يعادل وجبة الغداء في الايام العادية، لهذا أيضا يندهش السودانيون حين يجدون الملوخية والبامية والمحشي في مائدة الإفطار المصرية، فهي تغيب عن مائدة السودانيين طوال شهر رمضان.
لكل شعب كما ذكرت تقاليد وطقوس ، حتى في الوجبات الرمضانية وما بعدها، بل حتى في رؤية هلال رمضان، وتحية لصديقنا طارق جبريل الذي ما زال فاطرا حتى اللآن.
ذات رمضان سأل والدي اخي هاشم في التليفون، رحمهما الله، أها رمضان في أمريكا كيف..؟ فأجابه هاشم: والله لسة مفتي كاليفورنيا ماقال شاف الهلال.