رحيل الإمام الصادق المهدي … أسئلةٌ تَنْهشُ جدار الصمت

لم يكن الحديث عن رحيل الإمام الصادق المهدي غائبًا عن الذاكرة الجمعية لشعبنا علي طول السنوات الماضية ، بل ظلَّ جمرًا تحت الرماد، تُعيدُ الأحداثُ المرعبةُ إشعالَهُ كلما اشتدَّ لهيبُ الأزمات. ففي زمنٍ تَطحنُ فيهِ الحروبُ أوطانَنا، وتُغتالُ الحقائقُ تحتَ سقفِ الصمت، يفرضُ علينا الواقعُ الدامي إعادةَ فتحِ الملفاتِ التي ظنَّ البعضُ أنها طُويتْ بغيابِ الضحايا. فما كان يُعتقدُ أنه “موتٌ طبيعي” يتحوَّلُ اليومَ إلى شاهدِ إثمٍ على جريمةٍ سياسيةٍ بثوبٍ بيولوجي، تُذكِّرُنا أنَّ التاريخَ لا يُغادرُ ساحتَه إلا ليُعيدَ تشكيلَ الحاضرِ بدماءِ الماضي.
في عوالم السياسة المُعتمة، حيث تُحْكَمُ الخناقُ على الحقيقةِ وتُصَفَّى الحساباتُ بخيوطِ الظل، تطفو جريمةُ رحيل الإمام الصادق المهدي كأنموذجٍ صارخٍ لتحوُّلِ الأوبئةِ إلى سُيوفٍ مُسمومةٍ في معاركِ النفوذ. فلم تَكُفَّ أدواتُ القتلِ التقليدية عن ابتكارِ وجوهها، بل انتحلتْ ثوبَ الفيروساتِ لتنفيذِ مآربها في صمت، مُستفيدةً من ضبابيةِ الأزماتِ الصحيةِ وهشاشةِ الأنظمةِ السياسية. وهنا، حيث تذوبُ الحدودُ بين الطبِّ والسياسة، تُطرَحُ أسئلةٌ مُقلقةٌ عن مصيرِ الحقيقةِ في زمنٍ تُصبحُ فيه الجرائـمُ “الكاملة” مُجرَّدَ إحصائيةٍ في تقاريرِ الوباء.
–
“الحقُّ يُولدُ مرتين: حينَ يَخرجُ من أفواهِ الشهداء، وحينَ تَنتفضُ لهُ الذاكرةُ مِنْ قبرِ النسيان “.
بهذه الكلماتِ ، نستعيدُ ذكرى رحيل الإمام الصادق المهدي التي طالَما حاولَ البعضُ دفنَها تحتَ ركامِ “الوفياتِ الطبيعية”، لكنَّ رياحَ الثوراتِ المُعاصرةِ تعصفُ اليومَ بأكفانِ الزيف، لتُريكَ الجثةَ السياسيةَ عاريةً تحتَ ثوبِ الوباء.
لطالما كان الإمام الصادق المهدي حجرَ عثرةٍ في طريقِ المخططاتِ الأجنبية الماكره التي كانت ولازالت تَسعى لطيِّ صفحات النضال الوطني السوداني عبر تاريخه الماضي التليد وجعله مجرد تابع لا يتأثر بالاحداث ولا يوثر فيها . فتاريخُ الرجل، الذي جمع بين زعامةِ “الأنصار” الدينية وقيادةِ أعرقِ الأحزابِ الوطنية، جعله صوتًا يُعبئُ الجماهيرَ ضدَّ أي مسارٍ استسلامي. لكنَّ موته المُفاجئَ بفيروس كورونا، في لحظةٍ حرجةٍ من تاريخ الأمة السودانية، لم يكن سقوطًا بيولوجيًّا عابرًا، بل إغلاقًا مُتعمَّدًا لملفِّ معارضٍ عتيدٍ عبر سلاحٍ لا يُخلفُ رصاصةً تُدانُ بها يد.
–
تذكر التفاصيلُ الدقيقةُ بأنَّ العدوى لم تكنْ ضربةَ قدرٍ عمياء، بل ضربةً مُحكمةَ التوقيت. فقبل أيامٍ من إصابته، استقبل المهدي في منزله ضيفًا أجنبيًّا، وهو ما تؤكده مصادرُ مقربةٌ من عائلته. ولكن الغريبُ أنَّ الضيفَ لم تظهر عليه أعراضُ الفيروس، ولم يُسجَّل أيُّ تحقيقٍ جادٍّ حولَ احتمالِ نقلِه العدوى عمدًا. وعلى الرغم من أنَّ الإمام الصادق لم يكن معزولًا في بيته بشكلٍ صارم، ولم يلتزم بإجراءات الوقاية بشكلٍ كامل، بل كان يضرب بنصائح المقربين منه حول حماية نفسه عرض الحائط، إلا أنَّ تحليلاتٍ غيرَ رسميةٍ أشارتْ إلى أنَّ السلالةَ التي أُصيبَ بها تختلفُ عن تلكَ المنتشرةِ محليًّا، ما يفتحُ البابَ أمامَ فرضيةِ “زرعِ الفيروس” عبر شخصٍ مُعدٍى، في عمليةٍ تُذكِّرُ بأساليبَ استخباراتيةٍ سابقةٍ في تصفيةِ الخصوم.
–
“قتلوا الرجالَ بلا دمٍ يُرى… وبلا سلاحٍ يُدانُ به القتيلُ ،”
هذا البيتُ الشعريُّ الذي يَختزلُ فجيعةَ العصر، يُجسِّدُ جوهرَ الجريمةِ التي أُزهقتْ فيها روحُ الإمام الصادق المهدي، حيثُ أصبحَ الفيروسُ سلاحًا صامتًا لا يُخلفُ أثرًا، لكنَّه يُغيِّرُ مساراتِ التاريخ. فما أقسى أنْ تموتَ الفكرةُ بموتِ حاملِها، وأنْ تَصيرَ الحقائقُ غبارًا في عيونِ المؤرخين!
لكنَّ السؤالَ الأكثرَ إلحاحًا: مَنْ يَجني ثمارَ هذه الجريمةِ المُتقَنة ؟
الإجابةُ تَكمنُ في مفاصلِ الصراعِ الإقليميِّ حولَ السودان. فالجهات التي رأتْ في الإمام الصادق المهدي عقبةً أمامَ صفقاتِها المشبوهة ومصالحها في السودان، وجدتْ في رحيلِه فرصةً لدفعِ السودانِ نحو تنفيذ مشاريعها المستقبلية في السيطرة والهيمنة والتحكم واستغلال الموارد دونَ صوتٍ معارضٍ قوي . كما أنَّ نخبًا محليةً داخلَ المشهدِ الانتقاليِّ السودانيِّ، سعتْ لترسيخِ نفوذِها بإقصاءِ رموزِ الوطن الذينَ يَحملونَ شرعيةً تاريخيةً تُنافسُها. فغيابُ الإمام الصادق المهدي، الذي كان يُعتبرُ “الضميرَ السياسيَّ” للسودان، سمحَ بتمريرِ الكثير من الاتفاقياتِ المثيرةِ للجدلِ تحتَ ذريعةِ “الضرورات تبيح المحظورات “، بينما انشغلتِ القوي السياسيه على ضعفها وهوانها بملفِّات خلافاتِها الداخلية.
اليوم، وبينما تشتعل الحرب في السودان بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، يبدو أنَّ رحيل المهدي كان جزءًا من مخططٍ أكبر لتفكيك الدولة السودانية. فغيابه أضعف المعارضة الوطنية، وفتح الباب أمام قوى إقليمية ودولية واسعة للتدخل في الشأن الداخلي من أجل السيطرة على موارد الدولة، وتحويل السودان إلى ساحةٍ لتصفية الحسابات الإقليمية.
–
“السياسةُ هي فنُّ الممكن، لكنَّها أيضًا فنُّ الإفلاتِ من العقاب.”
هذه العبارةُ التي صاغها الواقعُ المريرُ، تُلخِّصُ ما حدثَ في قضيةِ رحيل الإمام الصادق، حيثُ استُخدمتْ أدواتٌ حديثةٌ لتنفيذِ جريمةٍ كاملةٍ بلا أدلةٍ تُدينُ القتلة. فالفيروسُ هنا لم يكنْ مجردَ وباء، بل كانَ “سكينًا ذكيًّا” في يدِ مَنْ يَخشونَ المواجهةَ المباشرة، ويَختارونَ الظلامَ لتنفيذِ مآربِهم.
لكنَّ ثمةَ سؤالًا آخرَ يَخترقُ الضميرَ الإنسانيَّ: كيفَ أصبحَ الطبُّ، الذي يُفترضُ أنْ يكونَ حارسًا للحياة، أداةً لاغتيالِها ؟ .
لقد حوَّلتْ أدواتُ العصرِ العلميةُ الجريمةَ السياسيةَ إلى لعبةٍ إلكترونيةٍ باردة، تُنفَّذُ بلُغةِ الحمضِ النوويِّ والفيروساتِ المُعدَّلة، بعيدًا عن رصاصاتِ القناصةِ وضجيجِ الانقلابات. وهنا يُصبحُ العالمُ شريكًا في الجريمةِ عبرَ صمته: فغيابُ تحقيقاتٍ دوليةٍ مستقلةٍ في حالاتِ الوفاةِ المشبوهة، تحتَ ذريعةِ “الحساسيةِ السياسية”، يُضفي شرعيةً صامتةً على استخدامِ الأوبئةِ كأسلحة.
–
إنَّ قضيةَ رحيل الإمام الصادق المهدي ليستْ مجردَ نظرةٍ إلى الماضي، بل إنذارًا للمستقبل. ففي عصرٍ تتحوَّلُ فيهِ التقنياتُ البيولوجيةُ إلى أسلحةٍ استراتيجية، قد تُصبحُ حروبُ الغدِ حروبَ فيروساتٍ مُوجَّهةٍ جينيًّا، لتبادِرُ باغتيالِ الخصومِ قبلَ أنْ يَطأوا ساحاتِ المعارك. والسودان، الذي دفعَ ثمنًا لموقعهِ الجيوسياسي، يَكشفُ أنَّ معاركَ التحررِ الوطنيِّ لم تنتهِ بجلاءِ المستعمرِ التقليدي، بل انتقلتْ إلى حربِ ظلٍّت تستخدمُ أدواتٍ أعقدَ من أيِّ عصرٍ مضى. فهل تَصلُ الإنسانيةُ إلى يومٍ تُحاكمُ فيهِ ليسَ قتلةَ الأجسادِ فحسب، بل قتلةَ الأخلاقِ والسيادة؟ أم أنَّ القانونَ الدوليَّ سيظلُّ أعمى عن جرائمٍ لا تُرتكبُ بالبارود، بل بالمختبرات؟
الإمامُ، الذي وقفَ كجبلٍ في وجهِ مخطَّطاتِ التفتيتِ والتبعية، لم يكن ليُسلِّمَ روحَه لفايروس بيولوجيٍّ إلا بيدٍ خفيةٍ تدفعُ ثمنَ صمتهِ بملايين الدولارات. نعم، لقد اغتالوا الشاهدَ الأخيرَ على عصرِ الكرامةِ السودانية، وحوَّلوا جائحةً إنسانيةً إلى غطاءٍ لتصفيةِ الحسابات . ألم تَكفِهم حروبُ الجوعِ والأمراضِ التي أشعلوها ؟ ها هم اليومَ يَستعيرونَ جيناتِ الفيروساتِ ليُتمّوا مَسيرةَ الإبادة! فـ”كوفيد-19″ لم يَكُنْ مجردَ وباءٍ، بل سلاحٌ استُخدمَ بدقةٍ عسكرية
–
وأخيرا السودانُ، بثرواتهِ التي تَشهقُ تحتَ أنيابِ المُستعمرينَ الجُدد، كانَ بحاجةٍ إلى إسكاتِ كلِّ صوتٍ يصرخُ: “هذه أرضُنا!”. والإمامُ الراحل ، بشرعيتِه التاريخيةِ وجذورِه في ضميرِ الشعب السوداني، كانَ الحاجزَ الأخيرَ أمامَ صفقاتِ النهبِ المقلفةِ بـ”الاتفاقيات السريه”. فَضربوهُ بالوباءِ كما يُضربُ العبدُ المُتمردُ في ظلامِ السجن: صمتٌ مُطبقٌ، وجثةٌ تُدفنُ معها أحلامُ أمةٍ.