مؤانسة رمضانية(14).. آمال عباس: امرأة العمق العاشر

تشكل الأستاذة آمال عباس واحدا من مصادر الإلهام لأجيال من الصحفيين ومن المهتمين بالعمل العام، فهي نموذج لما يجب أن يكون عليه الصحفي المهني والإنسان الملتزم تجاه قضايا وطنه وشعبه، وتجربة حياتها ونشاطاتها في مجال العمل العام تقدم حلولا لإشكالية مفترضة عند البعض الذين يرون أن الصحفي المهني يجب أن يكون محايدا حتى في القضايا التي تمس جوهر حياة الوطن والشعب. فلا شك أن آمال عباس ظلت صحفية وكاتبة تمثل قمة نموذج النزاهة والأمانة والإخلاص، وتوخي الموضوعية والإنصاف، لكن لم يقف ذلك حائلا بينها وبين أن تكون صاحبة موقف واضح من قضايا الحريات العامة وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية وحقوق المرأة والمواطنة المتساوية.
ولدت آمال عباس في النصف الثاني من الأربعينات في مدينة أمدرمان في ظل ظروف سياسية واجتماعية موارة بنشاط كبير للحركة الوطنية وصراعات متعددة في السياقات السياسية والاجتماعية والثقافية، وولجت مجال العمل العام في سن مبكرة وهي لا تزال تلميذة، واختارت أن تنخرط في تيار الحداثة والنهضة والعدالة الاجتماعية فكانت من أصغر عضوات الاتحاد النسائي السوداني بقيادة فاطمة أحمد إبراهيم وعزيزة مكي ونفيسة المليك ونعيمة بابكر ومحاسن عبد العال وبقية الرائدات، واتنتمت سياسيا أيضا للحزب الشيوعي السوداني في سن مبكرة، فتكون وعيها ونما في مدرسة اليسار السوداني، وظلت، بطريقتها الخاصة، وفية لهذه القيم مع تعدد واختلاف اللافتات التي وقفت تحتها بعد ذلك.
ومع هذا النشاط السياسي والاجتماعي بدأت آمال عباس رحلتها مع الكتابة، بدءا من مجلة “صوت المرأة” التي انطلقت منها، وصولا لعدد من الصحف التي كتبت بها في فترة الستينات، وتنوعت كتاباتها بين القضايا السياسية والاجتماعية وقضايا المرأة، ومجالات الأدب والشعر الذي تعشقه، ثم محاولات الغوص في التراث الشعبي واستجلاء مضامينه.
ربما كانت أكثر فترة مثيرة للجدل في حياة آمال عباس هي فترة حكومة مايو (1969- 1985)، فقد انخرطت آمال عباس مثل كثير ممن انتمي لليسار ، بشقيه الماركسي والقومي، في دعم وتأييد حكومة مايو وتيني برامجها يسارية الطابع، ثم كانت جزءا من انشقاق الحزب الشيوعي السوداني بسبب الموقف من نظام مايو، واختارت المضي في دعم النظام بحماس وإخلاص كبيرين، وإن كانت فضلت أن تفعل ذلك من خلال العمل في المنظمات الجماهيرية، ومن خلال مداخل البحث والفكر والكتابة، وليس من خلال العمل في الجهاز التنفيذي، وعرفت بكتاباتها تحت عناوين مختلفة، مثل (كتابات في السياسة والثقافة والأدب)، و(من العمق العاشر).
شكل هذا الموقف امتحانا كبيرا لكثير من اليساريين الذين دعموا حكومة الجنرال نميري، ثم تراجعوا عن هذا الموقف في المنتصف، أو حتى بعد سقوط النظام، فاختاروا أن يتواروا عن الانظار ويغادروا ساحة العمل العام، لكن اختارت آمال عباس موقفا مغايرا، فقد استطاعت أن تبقى في ساحة الصحافة والكتابة والعمل العام بعد سقوط نظام نميري، ورغم اختلاف الكثيرين مع مواقفها السياسية، إلا أن أحدا لم يشكك في نزاهتها وتجردها من النزعات الذاتية والمصلحية، وأنها اتخذت مواقفها عن قناعات راسخة وقادرة على دفع ثمن ذلك. ولم يكن صعبا عليها مواصلة الانخراط في العمل العام، والوقوف في صف معارضة نظام الإنقاذ، في حين انخرط كثير من المايويين السابقين في صفوف النظام.
وصنعت آمال عباس مجدا جديدا للمرأة السودانية في النصف الثاني من التسعينات حين تولت رئاسة تحرير صحيفة “المجالس”، ثم صحيفة “الرأي الآخر” السياسية المصادمة، والتي خلقت منها منبرا حرا ومفتوحا أزعج حكومة الإنقاذ فلاحقتها بالإيقاف والمحاكم، ثم قادتها إلى سجن النساء بأمدرمان، ولعلها كانت في ذلك الوقت من أوائل النساء في المنطقة العربية والافريقية اللائي تولين رئاسة تحرير صحيفة سياسية.
وانتقلت بعد ذلك لصحف (الحرية) و(الصحافة)، وظلت طوال هذه الفترة متعددة المنابر، صاحبة كتابات جاذبة ذات مقروئية عالية، وصانعة مواقف متجانسة ومتسقة مع ماظلت تؤمن وتبشر به طوال حياتها.
اعتكفت في سنواتها الأخيرة، وحتى أيام الحرب، في منزلها بالثورة، تقرأ وتكتب وتشاهد، وتتواصل مع أصدقائها وصديقاتها بالتليفون، تنقل رأيا أو توضح وجهة نظر أو توجه نقدا، وتعتذر بعدم قدرتها على الحركة. وكانت تسعد بزياراتنا القليلة والقصيرة إلى منزلها، حيث تقيم مع شقيقتها عايدة وشقيقها الفاتح الذي رحل في شهور الحرب، رحمه الله.
أمال عباس رمز مشرف للصحافة والصحفيين والصحافيات السودانيين، ونموذج يقتدى به في العمل العام، تنخرط في معارك العمل العام بهمة وحماس، وتأخذ مواقف مثيرة للجدل، وتخرج من كل ذلك وهي محل احترام وتقدير ومحبة الجميع، بارك الله قيها ومد في عمرها وأحاطها دائما بمحبة من يعرفون قدرها وقيمتها.