كتاب “ابني وصراع مع السرطان” للكاتب نجيب خليفة محجوب..
هذا كتاب جامع.. لم يترك الكاتب فيه -تقريباً- ضرباً من حياتنا المعاصرة لم يتناوله بمبضع الجراح، وتناول المتأمل الذي تكونت لديه نظرة محددة، ولعلّي لا أبالغ إن قلتُ إنه تناسخ حديث لروح “المستطرف في كل فن مستظرف”.
تشع علينا روح الكاتب الساخرة عبر ثنايا الكتاب بأسلوب لا يصح وصفه بالتهكم، بل بالذكاء الماكر، وبحصافة الناقد الاجتماعي الذي تأسست لديه أفكار فلسفية تولدت حصيلة طبيعية لتربية سودانية أصيلة، وعمل طال في الأمم المتحدة لما ينيف على ثلاثة عقود، تنقل أثناءها فيما يزيد على مئة دولة في أرجاء العالم، ونال خلالها صديقنا -ابن بطوطة هذا المعاصر- حصيلة ثرّة من التجارب، واستلهم شيئا غير قليل من تراث الشعوب المختلفة وثقافاتها، وتراكمت عنده بضع لغات، وشهادات عِيان من حروب وكوارث.. وأفراح وطرائف، ومن كل ذلك تولّف نجيب!
كان لا بد من هذه المقدمة لفهم جزء يسير من مكونات شخصية الكاتب قبل أن أتناول سفره القيّم “ابني وصراع مع السرطان” ببضع كلمات، مُحاذرا من شيئين: الكشف عما يحتويه من مفاجآت، وكذلك ألا أُطيل عليكم.. وبارك الله فيمن زار وخف!
كانت فرصة سعيدة للغاية عندما فاتحني الأخ والصديق العزيز نجيب بموضوع الكتاب في نوفمبر 2014، طالبا مني أن أساهم فيه بالتحرير، ولم يسعني إلا القبول، فالموضوع غير مطروق -على حد علمي المتواضع- حتى الآن باللغة العربية، والقضية اجتماعية بالغة الأهمية؛ فالأوضاع، بل المعاناة التي يعيشها مريض السرطان وأسرته في وضع اجتماعي مغلوط ما زال يمارسُ، بل يُدمنُ حتى الآن الإشارة إلى مرض السرطان باسم “المرض الكعب”، لهي حالة إنكارٍ لا يخفى على أي منكم ما تتسم به من جُبن وهروب.
ولكن.. لم يكن هذين السببين الوحيدين فحسب اللذين دفعاني للإسهام في هذا الكتاب، والذي تصحُ تسميته بمشروع توثيقي رائد، بل أُضيفَ إليهما أسلوب شائق، ودقة ملاحظة لاذعة لأوضاعنا المتردية، وسلاسة في التعبير، وإبحار في العديد من الموضوعات.. إلخ، وذلك رغم أن الكاتب يدّعي -زوراً وبهتاناً- أنه ليس بكاتب!
عاصرتُ هذا الكتاب وهو جنين لم يتخلّق بعد، وكان أخي نجيب يبعث لي الفصول منجّمة، ولا أخفيكم سرا أن دموعي كانت تسيل دون إرادتي، وأنا أتابعُ تلك الرحلة المضنية التي قطعها الابن العزيز كمال، وأسرته الكريمة، مع مرض السرطان، منذ مرحلة اكتشاف المرض، مرورا بتجربة العلاج الكيماوي الأليمة، وانتهاء -بحمد الله- بالشفاء التام.
لم أملك إلا أن أعيش تفاصيل تلك الرحلة بكل توترها وعذاباتها، ودعائها وصلواتها، واضطرابها وحيرتها، ثم ختاماً، بحبورها وضحكاتها.
لا أود التوسع في تفاصيل الكتاب لكي لا أُتلفَ متعة القراءة لديكم، ودعوني أقول بأن هذا السفر القيم هو كتاب رحلات:
رحلة داخل النفس البشرية بضعفها وقوتها..
رحلة مع مرض السرطان وما ينبغي، بل يجدر بالمريض والمقربين منه مراعاته لتخفيف المعاناة وارتياد طريق العلاج الطويل بسلاسة..
رحلة عبر الدول والقارات نقلت لنا طرفا من ثقافات وحصيلة تسفار مشوقة..
رحلة مع تأملات الكاتب العميقة التي أضفت على الكتاب بُعدا ثرّا..
رحلة مع إيمان نجيب الراسخ الذي كان معينا له أثناء الفترة العصيبة..
رحلة مع الأسرة الكبيرة والأصدقاء والمعارف الأوفياء..
رحلة مع الفروق الثقافية بين الحياة في العالم الثالث وبريطانيا..
رحلة تعليمية وتوثيقية ممتعة..
وليس آخراً، رحلة مع المواقف الطريفة، ومع عملاق الكرة البريطانية، السير أليكس فيرغسن.
إلى كل ذلك، يبحر بكم نجيب خليفة محجوب، والذي أُزجي له التحية والتهنئة معا، آملا أن نطّلعَ على المزيد من كتاباته الجميلة في القريب العاجل.. من أجل المتعة والفائدة معا!
هذا كتاب يستحق أن يُقرأ!
*الكاتب: إعلامي سوداني ببريطانيا