تحتشد الذاكرة الوطنية السودانية بأحداث تاريخية شتى .. يتباين تقييم العقل الجمعي السوداني لها ما بين الانطباعية المفرطة إلى الغلو المتشدد الذي يلغي روح البحث والتقصي للوصول إلى حقائق الأشياء .. الجمعية التشريعية السودانية – أول مؤسسة برلمانية سودانية تكونت مع بشائر فجر الاستقلال – تقع أحداثها في في سياق التباين أعلاه نفسه .. فالبعض اختزل تقييمه لها من خلال كلمات الزعيم الأزهري: “سنرفضها ولو جاءت مبرأة من كل عيب”..في إطار ذهنية الكسل المعرفي التي أقعدتنا نحن السودانيين عن استنطاق حقائق التاريخ لمصلحة سودان الحاضر .. بينما يرى فيها بعضنا الآخر مؤسسة مفتاحية لتحقيق استقلال السودان، من خلال قرار الحكم الذاتي الذي اختتمت به أعمالها، والذي كان مربكاً ومفاجئاً حتى للمستعمرين البريطانيين انفسهم .
فيما يلي .. سنرى كيف استغلت القوى السياسية السودانية المختلفة ذلك القرار للضغط الدستوري على حكومة الحكم الثنائي لتحقيق الاستقلال .. وكيف تحلقت القوى الاستقلالية حول تلك السانحة التي جاد بها المستعمر بكفه القتور .. لتتحول بها ذات القوى -بواقعيتها وحسن انتهازها للفرص – من مجرد مؤسسة صورية استعمارية إلى مؤسسة مفتاحية لتحقيق استقلال السودان .. وللانتقال بكل ما سبق إلى مربع الموضوعية ليس هناك أفضل من المبادأة بتكثيف المزيد من الإضاءات على تاريخ الجمعية التشريعية ومقرراتها من خلال كتابات مؤرخين وشخصيات معاصرة وطنية وأجنبية – بمصادرها التأريخية تجلية للحقائق، وإعلاءً لأيديولوجية التحليل الأكاديمي الأمين لأحداث تاريخنا الوطني.
تكونت الجمعية التشريعية في اواخر أربعينيات القرن الماضي بوصفها مؤسسة برلمانية تهدف إلى تحقيق التطور التدريجي الدستوري المفضي إلى تأهيل النخب السودانية للقيام بدورها القيادي المأمول .. وقد تكونت تلك الجمعية بموافقة بريطانية ومعارضة مصرية عكست تشاكس وتضارب المصالح الاستعمارية للدولتين أكثر من اكتراث اي منهما بحقوق الشعب السوداني في نيل الحرية والكرامة.
وفي ظل احتدام الصراع ما بين فكرتي الاستقلال والاتحاد مع مصر، تقدم التيار الاستقلالي ليعلن عن نفسه آنذاك من خلال تحالف الجبهة الاستقلالية بدار حزب الامة في عام 1946م، وكان شعار تلك الجبهة هو انهاء الحكم الثنائي البريطاني المصري، والعمل على قيام حكومة سودانية ذات سيادة وطنية خالصة.
وتكونت الجبهة من حزب الامة وحزب القوميين بقيادة الأستاذ أحمد يوسف هاشم والحزب الجمهوري بقيادة الأستاذ محمود محمد طه، ومجموعة من الشخصيات الوطنية المستقلة كالأستاذ بشير محمد سعيد، والشريف عبدالرحمن الهندي، والاستاذ عبدالرحيم الأمين . اكتسب هذا التحالف زخماً أكبر حينما انضمت إليه لاحقاً الجبهة المعادية للاستعمار ( الواجهة السياسية للحزب الشيوعي السوداني) التي انضمت لاحقاً للجبهة الاستقلالية، على الرغم من معارضتها للجمعية التشريعية مبدئياً .
وفي الجانب الآخر، كانت هناك الحركة الاتحادية بتكويناتها المعروفة من الأحزاب الاتحادية بقيادة حزب الأشقاء بزعامة الزعيم الوطني اسماعيل الأزهري، ورفاقه وحزب وحدة وادي النيل بزعامة محمد نور الدين، والدرديري أحمد إسماعيل، والدكتور احمد السيد حمد .. وكان هذ التحالف يدعو إلى الوحدة مع مصر تحت ملكية التاج المصري .
جوبهت فكرة الجمعية التشريعية بالرفض القاطع من معسكر الأحزاب الاتحادية من خلال بيان صدر في 20 اكتوبر 1947م جاء فيه نصاً الرفض المطلق للجمعية التشريعية حتى ولو جاءت مبرأة من كل عيب؛ لأنها تتنافي – على حسب نص البيان- مع الاهداف القومية المتمثلة في قيام دولة وادي النيل تحت التاج المصري، وإنهاء الإدارة الحالية وجلاء القوات البريطانية.
وقد تبع ذلك بيان عاصف صدر ممهوراً بتوقيع السيد إسماعيل الازهري في 14 يونيو 1948 طالب فيه الحكومة المصرية “بالمسارعة بوضع دستور، ونظام لحكم السودان الداخلي في نطاق الوحدة والتاج المشترك “، ورحب بفشل المفاوضات المصرية الإنجليزية بخصوص ما اسماه ” مشاريع السودنة الاستعمارية الهزيلة “، ووصف الجمعية التشريعية بالصناعة الإنجليزية، وختم بيانه بعبارة ” ولكن الله سلم قضية وادي النيل من أن تضار ” .
وعطفاً على ما مر ذكره، من المهم هنا الإشارة إلى أن رؤية الحكومة المصرية. – الحليف الأضعف في ثنائية الحكم الإستعماري – للجمعية التشريعية كانت بحسب الأدبيات المدونة هي : “العمل من أجل أن يكون هناك نظام انتقال مؤقت يتدرب السودانيون من خلاله على الحكم الذاتي حتى إذا انتهت فترة الانتقال، استطاع السودانيون أن يتسلموا زمام امرهم كاملاً تحت لواء تاج مصر المشترك، وفي ظل وحدة وادي النيل”.