اليوم العالمي لحرية الصحافة مناسبة سنوية نشجب وندين فيها الأنظمة الديكتاتورية التي تقمع الصحافة وتكمم أفواهها، وتمارس التسلط؛ لأنها ببساطة لا تطيق العيش في مناخ ملئ بالحريات والتعددية.
في مناسبة هذا العام أريد أن أتحدث عن أمر آخر، بعيداً من الأنظمة ووسائلها في القمع والتضييق، ليس لأنها زهدت في قمع الصحافة، أو لأنها زادت مساحة الحريات، ولكن لأن بعض الصحافيين أنفسهم تحولوا إلى مغتصبين للآراء ووجهات النظر التي تختلف عن آرائهم، ولم يعودوا في غالب الأمر يختلفون كثيراً عن تلك الأنظمة التي ينامون ويصحون على إدانتها، في الوقت الذي نجد أن أيديهم ملطخة بما خطته أفكارهم النشاز!
الممارسات التي يقوم بها بعض الصحافيين، والتي تتمثل في استخدام أقلامهم للنيل من اعدائهم، أو تحويل ساحات النقاش الحر إلى ساحات معارك تغتصب فيها أخلاقيات العمل المهني لمجرد إثبات أنهم على حق، والآخر على باطل، ما هي إلا خيانة لثقة القارئ، والمتابع للصحف الذي يجد نفسه في ساحة معركة لا ناقة له فيها ولا جمل.! بل على العكس؛ يتم جره إلى ساحة أقذع الألفاظ، وأحياناً يجد نفسه في مستنقع من الانحطاط اللغوي والأخلاقي، في مساحة يسيطر عليها قانون (الغاب الكتابي)، ويراق فيها أطهر المداد، دون وعي، ولا أدنى إحساس بالمسؤولية أو وخز الضمير.!
عندما ننظر إلى الناس من حولنا نجدهم مختلفين جداً.. حتى الأهل والأخوان تجدهم متابينين إلى الحد الذي يجعلنا نسرع إلى عبارة: “البطن بطرانة”.! هل يا ترى كل هذا الاختلاف كان محض مصادفة، وجاء بلا قصد؟ لا وألف لا، الاختلاف أمر أكثر من طبيعي؛ بل هو الحقيقة الأكثر سطوعاً في حياتنا، والغريب أن يتحول هذا الأمر العادي جداً إلى أمر يربك تفكيرنا، ويقلق منامنا، فلا نشعر بالأمان وغيرنا يظن أن الاحتفال بعيد الأم أمر مقبول،أو أن تقديم الأزهار لشخص تحبه شيء جميل ولطيف.!
طالما أن الاختلاف أمر حقيقي وحدث واقعي، أليس من الحكمة أن نعي تماماً أن أهم الصفات الإنسانية يجب أن تتمثل في قبول هذا الاختلاف، ومن ثم معرفة إدارته والتعامل معه؟.
الوجود في الحياة أمر يستدعي الاستثمار.. نحتاج إلى أن نقضي وقتا أطول ونحن نتعرف إلى من لا يشبهوننا والمختلفين عنا، وأسباب اختلاف الآراء ووجهات النظر، بل الأجدى أن نستمع إلى المختلفين بتؤدة وعمق، فربما يكون استماعنا إليهم سببا في تغيير قناعات كثيفة لاصقة في دواخلنا، وتستقي قدسيتها فقط من كونها أتت أولاً!
نظرية البالون..!
وضعت مع نفسي نظرية أصف بها الأشخاص الذين لا يقبلون الآراء التي لا تتفق مع رؤاهم الخاصة، اسميتها نظرية (البالون)، تقول نظريتي البسيطة إن البالون بعد تعبئته بالهواء يصير مليئاً ومنتفخاً، وهذا الأمر يمنعه من استقبال أي شيء جديد، ويظن في نفسه أنه ممتلئ تماماً، وهو لا يحتوي إلا على الهواء فقط!.. فعملياً هو فارغ تماماً.!
البالون يشبه كثيراً من الأشخاص الذين يعتدون بما يقتنعون به، ولكنهم في حقيقة الأمر، بعيدون جدا من الحقيقة، وهم لا يعون هذا؛ لأنهم لا يسمحون بدخول أفكار جديدة، ويغلقون كل منافذ الوعي.
الاسوأ من عدم وعينا بالاختلاف هو هجومنا الكاسح تجاه من نختلف معه، كأن الخوف يتملكنا من ألا نكون على حق، ومن ألا نستطيع الدفاع عما نؤمن به؛ لأننا في العميق هناك لا نؤمن بما يكفي، فنبدأ في تنفيذ الهجوم وسيلةً للدفاع عما نظن أنه الحقيقة!.
والأمر الذي يثير الأسف والحزن معاً، هو أن من يذبحون المختلفين عنهم ليسوا مجرد أناس عاديين، بل هم اناس يفترض فيهم أنهم قادة رأي وحملة ألوية التغيير ورواد التحرر والمنادين بالديمقراطيات والمنابر المتعددة، المؤسف أن من يقومون بهذا الأمر في الغالب ليسوا فقط مجرد صحافيين في درجات سلم العمل الصحفي، بل مع الأسف هم أصحاب الأسماء التي نجدها في الصفحات الرئيسة للصحف، بينهم رؤساء تحرير ومالكو مؤسسات صحفية أيضاً.!
لا ينتبه (الكبار ) من الكتاب الصحافيين إلى عدد من الأشياء، أولها وأخطرها أنهم هم من يضعون (السنن) ويمهدون الطريق لمن يتبعهم من صغار الصحفيين الذين يفهمون من طرقهم الهوجاء هذه أن هذه هي الطرق المثالية لتثبت أنك على حق! وان وجهة نظرك هي الأحق طالما كنت الأقدر على الشتم والأقدر على وضع قواميس لغوية متطورة في سب الآخرين، وإخراج أكبر عدد من سوءاتهم على الملأ، والنبش في ماضيهم لفضحهم علناً ومحاكمتهم، يا لها من طريقة غاية في البدائية للتعبير عن الرأي المختلف وتوضيح وجهات النظر المختلفة.!
الحرية في التناول الصحافي لا تعني تعدينا بأي حال من الأحوال على أعراض غيرنا وحرماتهم وحياتهم الخاصة، والحرية في الرأي لا تعني ان نستخدم أقلامنا لننتقم من أعدائنا، ولا أن نؤجر أقلامنا لمن يدفع أكثر.!
الحرية أمر غال جدا وثمين والحصول عليه يتطلب قدرة على دفع هذا الثمن تتمثل في ضبط النفس والتحلي بالمرونة والمسؤولية.
أمر غاية في الدقة لا نلقي له أي بال ونحن نمسك بأقلامنا أو نضع أصابعنا على (كيبورداتنا) و”نقرقع” الأفكار في سرعة وجرأة؛ ألا وهو الحساسية في انتقاء المفردات والألفاظ فلا ينبغي أن نسيء لنوع ولا لشخص، ولا نتعالى على مهنة أو إنسان له حظ أقل في المعرفة أو العلم أو غيره.
عندما يكتب (الكبار) يجب أن يعوا جيداً أن هناك من يدفعوا ثمن الصحف من قوت ابنائهم، ومن حقهم ألا يجدوا أنفسهم وقد اشتروا ساحة معركة، أحدهم اختطها ليشتم ويسب شخصا آخر.
هل يا ترى من يكتبون بدون مسؤولية، ولأغراض شخصية، فكروا يوماً في أنه ربما في مدينة ما، أو قرية ما،وقعت هذه الصفحات الغالية بين يدي شاب أو فتاة، قرؤوا ما كتبتم، وكانت تلك الأحرف هي الأغلى بالنسبة إليهم، وموضوع للحديث والنقاش الموضوعي والفكري مع آخرين يتلمسون طريقهم نحو الوعي والمعرفة، ويتخذونكم قادة للرأي تأخذون بأيديهم نحو عوالم أكثر تطورا ؟…
اليوم العالمي لحرية الصحافة الذي يصادف الثالث من مايو/ آيار من كل عام مناسبة للترحم على أرواح زملاء مهنة المتاعب، على أرواح كل من فقدناهم وهم يؤدون واجبهم، وهي مناسبة لنتضامن مع كل صحافي جرى قمعه وتعذيبه، وهو يناضل بالكلمة، ويفضح الاستبداد والتجاوز والفساد.. تحية لكل صحافي نُزع عنه قلمه، وترك ناقص الكبرياء والكرامة بعد أن منع من الشيء الوحيد الذي يجيده.
اليوم العالمي لحرية الصحافة مناسبة للشد على أيدي كل الشرفاء والشريفات من صحفيي بلادي الذين يعملون في مهنة تحفها المخاطر والمحن من كل جانب،من تضييق سياسي واقتصادي إلى ظروف عمل قاسية وقاهرة، و محفوفة بالابتزاز المادي والمعنوي .
هناك شرفاء قد لا يملكون حتى جنيهات لشرب الشاي (السادة)، لكنهم يملكون ما يجعل أكبر رجال السلطان يرتجفون خوفاً من أقلام لا تشترى ولا تباع، تبحث عن الوقت المناسب لتقدم الحقائق فقط .
اليوم العالمي هو مناسبة لتقديم التحية لمؤسسات صحافية تقف إلى جانب الحقيقة والمهنية والمواطن من دون أن تهتم بنصيبها من جدول الإعلانات الحكومية، ورضا من يمسكون بالهراوات!.
اليوم العالمي لحرية الصحافة يؤكد أن عمر الصحافة السودانية لا زال طويلاً، ولن يتم الاستعاضة عنها، لا عبر الوسائط الحديثة ولا التلفزيونات ولا الإذاعات، لأن التنوع في رحم الصحف السودانية يكشف عورات النظم الديكتاتورية التي لا تجد ما تواري به سوءاتها سوى القمع والتشري..
تحية أخيرة خاصة للزميل أبوذر سعيد والكاتب زهير السراج وعثمان شبونة وأمل هباني وغيرهم من الصحافيين والصحافيات الشرفاء.