أصدرت منظمة الشفافية الدولية تقريرها السنوي لعام 2017م، وكدأبها، استخدمت مؤشراتها الصارمة لكشف الفساد وتصنيفه في 180 دوله حول العالم.
لم تكن التوقعات مرتفعة في هذا التقرير الدوري بتحسن حال بلادنا بخروجها من قائمة (الطيش)، أقلها لمن يدركون السياق العام للحكم، أو لأبجديات معايير العمل الإداري، وغياب المساءلة والمحاسبة في السودان.
وبالطبع توجد علاقة عكسية بين الشفافية والشمولية. فحيثما تكون الشمولية ثمة نقص في الشفافية والعكس صحيح. لا عجب أن حصل سودان الإنقاذ هذا العام على 16 نقطة من 100، وعكس بالتالي معدلات التردي السنوي في الفساد.
منظمة الشفافية لا مصلحة لها في تصحيح (الكراسات)، أو منح (نمر) بالسلب أو الإيجاب. فقد عرفت، منذ تأسيسها في عام 1993م، بأنها منظمة غير ربحية تصدر تقاريرها بحيادية تامة وموضوعيه تستند إلى مؤشرات قياس معيارية. وهي منذ نشأتها تستهدف مساعدة الدول، ونصحها برؤية مواطن الخلل في نظامها المالي والمحاسبي والسياسي الإداري. فالهدف تنموي إنساني أممي تحاول من خلاله المنظمة نقل دول العالم من حال الفساد إلى مربع يقل، أو تنعدم فيه ممارسات المحسوبية، والرشوة، والتحيز القبلي والعشائري.
هذا يعني أن حياد المنظمة محصن من الكلام المسلوق، ويؤكده تعريفها للفساد، وتطبيقاتها لمعاييرها. فالمنظمة تعرف الفساد الإداري (بأنه كل عمل يتضمن سوء استخدام المنصب العام لتحقيق مصلحة خاصة ذاتية لنفسه أو جماعته)، ولها تعريفات فرعيه للفساد البيروقراطي، وللتسويف الذي يدفع الناس إلى التماس وسائل غير مشروعة، كالرشوة للحصول على خدمة، أو استخراج تصريح، أو هوية وطنية. والشاهد -وبغض النظر عن حياد المنظمات- أنه عند تطبيق أي تعريف على السياق العام لممارسات نظام الجبهة الإسلامية ستجدها تنطبق بصور قميئة، وخصوصاً سوء استخدام المنصب، والمحسوبية الإدارية، والتعتيم، وما فاضت به تقارير المراجع العام الحكومي، ومقالات الطيب زين العابدين، وعبدالوهاب الأفندي، وشاهد على العصر. فحصول السودان على 16 من 100 يؤكد شفافية منظمة الشفافية الدولية.
مع ذلك، بعض الدول -ومنها السودان- بدلاً من كبح معدلات فسادها تلجأ إلى الإنكار، والهرب أماماً بتسييس التقارير، وبالطعن في نزاهتها. لا عجب أن استمرت الملهاة. ولا يجد المرء تفسيراً لمغالطة ما هو معلوم بالضرورة. فالبيانات التي تجمعها المنظمة يصعب مغالطتها، فهي من مواقع الحكومات المعنية، كتقارير المراجع العام، وبعضها من منظمات ذات مصداقية، كالبنك الدولي، أو تستند المنظمة إلى دراسات علمية محكمة تصدرها جامعات ذات مصداقية.
ومن أهم المصادر التي لا يمكن التشكيك فيها التحويلات المصرفية الملياردرية لجلاوزة الفساد، فهي أدلة مادية لعمليات غير مشروعة. ومنظمة الشفافية بعد جمع بياناتها، تتعامل معها بمعالجتها إحصائياً لتحولها إلى مؤشرات، تقيس بها سلوك الدولة، وارتباطه بالفساد، وتعطيها نقطة أو صفر، فمثلاً يتم قياس تفشي الرشوة، واختلاس المال العام، واستغلال السلطة بقياس قوة وسائل المساءلة، والمحاسبة، ووجود صحافة حرة، ويقاس بحياد السلطة القضائية، ومدى وجود أو عدم وجود مفهوم فصل السلطات، وهل توجد آليات وطنية محايدة لتعزيز النزاهة والافصاح؟ كما يقاس وجود ما يؤشر إلى قوانين مطبقة أم أنها تفصل في شارع الموردة.
وبغض النظر عن حياد أو قلة حياد هذه المنظمات، فإن البشر يميزون بين الخطأ والصواب، وحقائق التاريخ تؤكد وجود علاقة بين الفساد والقمع. فالسلطة المطلقة فساد مطلق. تلك معطيات صارت معروفة، وشائع التداول منذ تأسيس جمهورية الرومان، إلى طرح مونتسكيو، إلى مقاربات ماكس فيبر. ولهذا البلدان التي تتهرب من الاعتراف بواقع فسادها ستتحول إلى ما يشبه دول جريمة منظمة. من حيث إن السلطة ستحمي تجاوزات الفاسدين، والفاسد يحمي قمع السلطة، والنتيجة أن يصبح المواطن والوطن (ساندويتش) بينهما؛ ليتم العصر حتى يطلع (زيته) عندها.
قد يتصالح مع الفساد، ويتم قبول السارق في المجتمع، ويصنف فعله بأنه شطارة. في تلك اللحظة يتم احتقار القانون، ومن يتحدث عن القانون. وواقع السودان يشيء بهذا التشخيص؛ لهذا لن يتم فصل السلطات، أو ضبط الفساد بالقانون، أو محاكمة الفاسدين.
وليس ثمة أمل غير اليأس، ولكن المفارقات أنه من اليأس يولد الأمل. فالأنظمة الفاسدة عندما تصل إلى القاع تكون قد حفرت قبرها بيدها، وحوادث السنين الماضية تؤكد أن الحكام الفاسدين صاروا أمثولة وفرجة وعبرة لمن يعتبر، والسودان ليس استثناءً من هذا المنطق الكوني.
ولكن انتقال السودان إلى مربع يكون فيه برنجي الدول (النظيفة) يتطلب من السودانيين عودة الثقة بالنفس، وإدراك أن الفساد ليس قدراً مقدوراً، بل عدواً ينبغي أن يُهزم بهزيمة دهاقنته؛ ليخرج السودان من قائمة جنوب السودان، والعراق، والصومال، وما أكل السبع.