استمعتُ وشاهدتُ مقابلةً تلفزيونيةً رائعة، وممتعة حد الإشباع، أجراها مؤخّراً الإعلامي اللامع الطاهر حســن التوم مع وزير النفط (دكتور) عبد الرحمن عثمان حفظه الله ورعاه..كانت المقابلة عن أزمة البنزين التي اجتاحت البلاد مؤخَّــراً، وإمتدت علي إثرِها صفوف البنزين في كل البلاد إلي أطوال غير مسبوقة.. ويبدو -والله أعلم- أن الوزير كان أوَّلاً في المقابلة وإنقطعت المكالمة أو -قطعها- الوزير، ثم عاود المذيع الاتصال به مجدداً، وبادره قائلاً له: يبدو أنَّ هناك الآن مستوياتٍ متعدِّدة لهذه (الأزمة) ؛ ما قبلها وأثنائها وما بعدها.. فاستنكر عليه الوزير علي الفور، وإبتداءً، استخدام مفردة (أزمة) في التوصيف، وأنّ ذلك ما هو إلا محض اختلاق من المذيع.. ويقصد بذلك أنه لا توجد هناك أزمة بنزين ولا يحزنون، وقال: إنَّ كمية البنزين والجازولين التي كان يصرفُها سعادته لولاية الخرطوم أكثر من ضعف ما كان يُصرف لها قبل ما (يُسمي) بالأزمة !
وهنا سأله المذيع: طيب، ولماذا إذن هذه الصفوف الطويلة سيادة الوزير؟!! فردَّ عليه الوزير متهكِّماً: دا -أي مشكلة الصفوف- شُغُل الولاية وأجهزتها الأمنية، مش شغلي أنا..فسأله المذيع مجدداً: وهل تواصلتم مع الولاية إذن بشأن الأمر؟! فقال له الوزير بسخرية وإستهتار : (بكرة) حأتواصل معاهم، لكين هم ما شايفين براهم.. وما شايفين الناس بجركاناتهم في الصفوف ؟!!! وهنا تساءل المذيع مستغرباً: ولكن لم تكن هناك صفوف بنزين قبل الآن يا سيدي!!..فرد الوزير قائلاً: يعني عايزني أقول ليك شنو؟؟!! يعني عايزني أوقِّف ليك الصفوف أنا ؟!!!
وهكذا استمرت هذه المقابلة القصيرة (واللئيمة)، وعلي هذا المنوال من المماحكة والقطامة واللؤم (واللَّياقة) وعدم الإحترام من قِبَل الوزير لا للمذيع ولا للمشاهدين، حتي أنه قَفَل الخط آخيراً في وجه المذيع المسكين وضيفه، فقال المذيع مُعزياً نفسه وفيما يبدو أنه اعــتذارٌ للمشاهدين: يبدو إنو الوزير متوتِّر !!
ومن عجب، وللتدليل علي تضارب تصريحات المسؤولين وتناقضها بشأن (الأزمة)، قال المذيع للوزير: إننا سمعنا قبل أيضاً تصريحاتكم بأن سبب الأزمة هو تعطُّل المصفاة، وأن فجوة التعطل هذه عادةً تُسَد بالاستيراد، وأن وزير الدولة بالنفط قال: إن هناك أزمة سيولة، ولولا أننا سدَّدنا قيمة بواخر الوقود لما أمكن تنزيلها، ولَمَا حُلَّت المشكلة، وإذن فالأزمة كان واضح مكانها وين !! وقااااااال كدة وشَبَـك الوزير في عبارة (مكانها وين) دي !! وأصبح يسأل ويكرِّر ويلامِض ويُماحق ويعكلِت (ويتلايق) مع المذيع الطاهر التوم بصورة أقل ما يمكن وصفها به أنها عبيطة ومُتَنصِّلة..ولقد عدَدتُ، والله العظيم، عدد المرات التي كرَّر فيها السيد الوزير عبارة (مكانها وين هذه وفي أقل من دقيقة) في مماحكتِه فوجدتُها تسعة عشرة مرة وربما أزيَد !! وكلما قال له المذيع: أنت الوزير، وأنت ممثل الحكومة، وأنت الذي تعرف مكان الأزمة، لا أنا، وأنا مهمتي أن أسأل فقط لا أن أجيب (تعابط) عليه الوزير بعبارة (مكانها وين..بس قول لي إنتَ مكانها وين.. مكانها وين بس..قلت ليك مكانها وين..)!! وهكذا حتي قَفَـل الخط في وجه المذيع -عامل فيها زهجان يعني- لأن المذيع لم يقُل له مكان الأزمة وين!
هذه المقابلة تصلح -بكل صدق وتأكيد- أن تتخذها الحــكومة نموذجاً لتدريب وزرائها، وبخاصة الجُدُد علي فن (دَرْع السؤال في رقبة السائل)..أي (الزوغان من السؤال وردُّو لصاحبه بعد التظاهر بالزهح والطَّفَش)..وهذا الفن أشهد أنه جديد، ويُعدّ من ابتداعات الإنقاذ، وماركة مسجلة باسمها، وهو يُعني بمهارة التملُّص من أسئلة الصحفيين وتساؤلات المواطنين بكل سهولة ويُسر.. وفحوي هذا الفن بسيطةٌ جداً، وسهلةٌ جداً وهي باختصار: لا تدع الصحفي أو المواطن (يَلبِّسـك) أي سؤال أو مشكلة بحيث تجد نفسَك مضطراً للإجابة، بل بادِر أنت (وأدْرَع المشكلة أو السؤال) له في رقبته..وبدلاً من أن تبحث أنت -أيها الوزير أو المسؤول- عن إجابة للصحفي أو المواطن، سارع أنت (ومَقلِب) هذا الصحفي أو المواطن (وخليهو يفَرفِر) بحثاً عن إجابة لسؤاله الذي طرحه..وفي هذه الأثناء -وما زال المواطن مشغولاً بالفرفرة- تقوم أنت بالتظاهر بالزهج والنرفزة وتقطع الخط إذا كانت المقابلة تلفونية، أو تنسحب وأنت في غاية الزهج والغضب والهياج إذا كان اللقاء مباشراً وتدع السائل في (فرفرفتو) ديك، (فيخيِّم عليه الحُزن والاكتئاب والإحساس بالذنب فيعتذر هو لك أن (تشالق) وسألك ذاك السؤال غير الحصيف) تماماً مثلما فعل الإذاعي الطاهر حسن التوم !!!
وطبعاً في النهاية نحنُ لا نلوم السيد الوزير..بل بالعكس نهنئُه، ونشُد علي يده، ونُبدي إعجابنا به علي إجادة هذا الفن والتفوق فيه مع كونه فنٌاً جديداً وعلماً مستحدثاً..ولقد كان سيادتُه تلميذاً نجيباً في مدرسة (دَرْع السؤال الإنقاذية) هذه..
وسبق أن سأل ذات المذيع (الشَّليق) الطاهر حسن التوم، السيد الرئيس عن الفساد وإستشرائه، وما عساهم فاعلون بشأنه، فقال له السيد الرئيس قولتَه المشهورة، التي جرَت مجري الأمثال : (نحنا ما بنمسِك الناس بالشُّبهات، والعندو دليل علي الفساد يجيبو لينا) !!
وهكذا نري، وبرغم أن قانون الثراء الحرام يُلزم المتهمين بإثبات عدم إثرائهم بالحرام، ولكن السيد الرئيس (دَرَع) مهمة إحضار دلائل الفساد في رقاب المواطنين السودانيين، وأن عليهم أن يثبتوا الثراء الحرام في المسؤولين الفاسدين وليس العكس..وستظل هذه (الدَّرْعة) في رقاب المواطنين السودانيين إلي يوم القيامة، وليس في رقبة الحكومة ما دامت الإنقاذ -أعزَّها الله- علي قيدِ الحياة..وعلى المواطنين أن يدبِّروا حالهم ويحَلحِلوا رقابهم من هذه الدَّرْعـة، وليس الأثرياء الفاسدين !!!