إن من بين مصادر المعرفة الانسانية في جوانبها الفلسفية و الفكرية كما تمدَّدت في السياق التأريخي للمعرفة البشرية بعامة، مبدأ الحوار الذي صاغ ووجه المعرفة في طبيعتها الأنسانية، أي المعرفة المؤنسنة في العصور التي سادت فيها المنطق و عقلانية المعرفة. و لم تقُم المعرفة في نظريتها الفلسفية Epistemology إلا بإعتمادها على تبني الحوار كجدل محرّك للأفكار ، فالحوار ظلَّ متفاعلاً بين طبقات معرفية متراكبة أفضت إلى مبدأ حواري يتسق مع وحدة المعرفة و العلوم, فإذا كانت المباحث المعرفية الانسانية نتجت عن تلاقح اسهم في إخصابها و اتساع درجة تأثيرها على أنماط التفكير الإنساني، و بالتالي أتخذ الحوار وجهته التأريخية كمبدأ تتقوم به المعرفة الانسانية. و هذا ما يبرِّر مساعي الفلسفة الحوارية في اتخاذها للحوار مدخلاً لتأسيس اطرها المفاهيمية بما يتفق و المبدأ الإنساني في مقايسة المعرفة بوحدتها المنهجية استداركاً لحقيقة وجودية في وحدة مصادر المعرفة في النوع الانساني و بالتالي أدواته المعرفية ابتداء. و ما نتج عن هذه المحاورات الفلسفية أضحت منهجاً في الحوار و النقاشات التي يتوصل بها إلى خلاصة مقدمات الأفكار المطروحة، و منذئذ تأسس المبدأ الحواري كشرط للمعرفة و منهجاً استقصائياً للبرهنة على مجمل الطرح الفكري. وفي هذا تتجلي القيمة الإنسانية الأعلى في التسامح و تقبل الرأي الآخر وفق منطق نسبية الحقائق. وتطور نظرية المعرفة عبر مراحلها المختلفة و أنمطاها الفكرية و الفلسفية و العلمية تعكس الضرورة و التحدي الذي استدعه حاجة الانسان بهدف الوصول إلى توظيف القدرات العقلية معرفيا.
وبما أن طبيعة المعرفة ذات أبعاد اختبارية في طوّر الشك وصولا إلى يقينية متحققة، فلا تتأكد إلا حين تختبر فرضياتها تطبيقاً على أكثر من محاور ، و هو ما يقود إلى الحوار في تبادل النتائج و شروط التطبيق. إذن، الفعل المعرفي لا يتحقق و يضطرد تطوره بمعزل عن مفاهيم تكون ذات صلة بأصوله التكوينية . إن فلسفة العلوم دائماً ما تبحث في مدى قابلية مناهجها للتقدم الذي يتوقع احرازه في سياق المعرفة بوحدتها المنهجية، و هي المعنى الذي يفسر الحوار من حيث بنتيه المعرفية و مفهوم الفلسفي ، و من ثَمَّ الإستفادة من القدرة الكامنة في انساقه التي تمنحه صفته المعيارية. و يلاحظ أن فلسفة العلوم تحاول تقيدا بالمنهج النقدي دراسة العلوم وفق وفروضها ونتائجها لتحديد أصلها المنطقي ومدى اقترابها من المنطق العلمي.ولم يقتصر الحوار في المعارف الانسانية ذات الصبغة النظرية، بل نجد أن العلوم الطبيعية من فيزياء و كيمياء و غيرها اعتمد في مباحثها التأصيلية على حركة دائبة بين مختلف المقولات العلمية و نتائجها و سبل تطبيقها في سياق ما يمكن أن يوصف بحوار العلوم. ففي الثورة العلمية التي غيرت من نمط التفكير و تفسير الظواهر الطبيعية و الوجودية و منجزاتها الحضارية ما كانت لتستوى على مبدأ معترف به دون أن تستخدم النتائج التي توصلت إليها المعارف الأخرى. وبهذا التفاعل المتواصل تداخلت المناهج في مسارات علمية متعددة Interdisciplinary، فالتعدد هو صفة آليتها الحوار. و إذا كانت المعرفة لا تتوطن إلا في وجود حوار تعاقدي في لحظة تاريخية تتطلبها مقومات الحضارة فقد بات القول الدارج بأن الحوار صفة حضارية تواضعت عليها المعارف و الفكر الانساني نقلاً للحياة الانسانية بتطويرها أو تحويلها إلى مسرح للحوار لا تتكمل عناصر إلا بقبول كافة المشاركين على اختلاف رؤاهم التي تمثل تنوعاً إثراء للحوار. فأصبح الحوار يقود المعرفة و يوجهها. فالمنهج الاستقرائي، بخلاف الانتقادات التي وجهت إليه كلما أثبتت مناهج أخرى وثوقيتها العلمية؛ الذي ورثته العلوم من الفلسفة و استدلالته الاستنباطية قد اتاح فرصة أكبر في توخي الدقة في الأخذ بنتائج التجارب العلمية، و مع أن الظواهر الطبيعية متفاوتة من حيث تكوينها المادي و أثرها على واقع الانسان، فقد توصل الانسان إلى تفسيرها بأكثر من منهج مما أدى إلى نتائج متفاوتة أو نتائج غير متكافئة incommensurability حسب اصطلاح المنهج العلمي الذي أجلته كتابات مؤرخ العلوم الفيلسوف الاميركي توماس كون.
ولكن كيف إنعكست هذه الثورة العلمية في طرائق التفكير العلمي على الانسان و و على سلوكياته، و كيف تعامل معها؟ لقد بدا أن الانسان في صراعه مع ظواهر الطبيعة مدفوعاً بفضول معرفي لا يتوقف لمعرفة ما يغيب عن محيط ادراكه و مع توصله إلى تفسير بعض منها لم يكتف بالأثر الفيزيقي الذي احدثته العلوم بمنطقها التجريبي. فالإنسان يعيش في محيط يتفاعل و حركة الكون من حوله، و من جانب آخر يستدعي وجوده الحوار مع آخرين بصفته الكائن المهمين Anthropogenic في محيطه و مؤثرا فيه، فالمقياسة هنا لا تتم إلا عبر حوار الذات و الآخر. و هي في المفهوم السياسي كما عند الفليسوف السياسي الانكليزي توماس هوبز الخروج من الطبيعة الى العقل،أي الحوار و القانون. و من هنا يتدخل العامل الحضاري الذي سيشكل الوجود الانساني المشترك في حضارة كونية بكامل تنوعها الفكري و الديني و الثقافي و الموروث العلمي المشترك لكل الحضارات. إذن المعرفة هو نتاج الحوار و مقدمة لجهود علمية متراكمة. و قد تتعدِّد الصيغ التي تتفاعل في تحول الافكار و النظريات عبر نسقها التجريبي إلى تطبيقات نافذة ثبت الأليات الداخلية التي تصمم المفهوم الإطاري المنبثق عن تفاعل حواري يتنهي إلى نسق أوحد Paradigm يشمل مكونات المعرفة وفق ظروفها الناظمة للعلمية العلمية.
إن تصورات النظرية المعرفية لا تقوم على بنية منغلقة ذَّات توجه آحادي في العلوم ذات المبادئ التجريبية، فقد أرست نظرية المعرفة بما يمكن وصفه بالمباديء المستقرةـ حتى لا تفقد المعرفة المنطق الذي يفسر غاياتها حيثما بلغ الوعي بقيمة الحوار مبلغاً تخففت معه القيود التي تؤدي إلى تعصب يتنافي مع الطبيعة الانسانية المعرفية و يعوق تطورها التصاعدي. وفي اللغة الانسانية ( الكلام) نجدها لا يكتمل معناها إلا إذا استخدمت في الحوار مع الآخر و بذلك تكون مهمتها الفيزيائي ( الصوتية) نقل المراد مما يصطلح عليه في تعريفاتها المتكاثرة و لكن تبقى الأداة الأمثل للتعبير عن الحوار و استخداماته في التواصل بين الافراد، ومتى انطقلت بملفوظاتها حملت معها الافكار و دلالات المعاني بقواعدها المرعية. و نظرية المعرفة اللغوية كواحدة من بين أدوات المعرفة العلمية التي أصلَّت من خلال بنية التصورات اللغوية و قاعدة تفسيرية للعلوم ، و تذهب اللغة لتشكل حواراً ضمن مستوياتها التعبيرية الجمالية في الإنتاج الادبي و الجمالي. و من ثم وجد مفهوم لغة الحوار مستخدما على نطاق واسع ضمن الأنشطة العقلانية في الحقل المعرفي. فباللغة و المعارف تكونت الحضارات و استقرت الجماعت البشرية متفاعلة في حوار حضاري مدني، فإذا كانت عالم الاجتماع العربي ابن خلدون يرى أن في مقدمته بأن “أهل الدول أبداً يقلّدون في طور الحضارة وأحوالها الدول السابقة قبلهم، فأحوالهم يشاهدون، ومنهم في الغالب يأخذون، ومثل هذا وقع للعرب لمّا كان الفتح وملكوا فارس والروم” . إذن فالأخذ نفسه وجه من الحوار التفاعلي بوسائل أخرى و لكنها تكتسب صفة الحوار، و إن من معاني الحوار الفهم المشترك الذي يقوم على توصيل أفكار الطرفين.
ويتصل هذا التواصل و تحدَّد قيمة نظرية المعرفة في علاقاتها بالواقع الانساني بما تتيحه من إمكانيات بالبحث و المراجعة و النقد، و ما الثورة التقنية الهائلة غير المسبوقة في هذا القرن إلا نتاجاً لما راكمه التطور المعرفي و العلمي. و لأن كان هذا قد أحدث تحولاً هائلاً فقد فرضت واقعاً جديدا من الحوار بين شعوب الأرض بوسائل تقنية حفزت ووسعت من مجال المشاركة و التفاعل عبر الموصلات العابرة للقارات في نقل البيانات و حالة الاندماج التي تشهدها اقتصاديات العالم. و تحقق عبر هذا الترابط التخطيطي Connectography المصطلح الذي ابتدعه المحلل الاستراتيجي الاميركي باراج خان حوار الحضارات في أقوى صوره بالفضاءات المفتوحة نقل المعرفة و التفاعل معها خلافاً للحدود التقليدية كما ارتسمت على الجغرافيا. و من جهة أخرى، فإن تحقق حوار الحضارات يدحض المقولات السالبة التي توقعت أن تصطدم الحضارات في صراع ينذر بالفناء في نهاية نفق نهاية التاريخ.و بما أن نظرية المعرفية هي انبثاق للتفكير المنطقي في البحث عن أدوات منهجية تهدف إلى توحيد المفاهيم الأنسانية ضمن وعاء متنوع و، فإن الايدولوجيات أخفقت في انتاج الرؤى المتعددة لاقتصارها على منهج آحادي لا يأخذ برأي الآخر و تقصر الحوار ضمن نسقها المغلق.
* نشر بمجلة الحوار الفصلية الفكرية و الثقافية بتاريه يناير 2017م.
* ناصر السيد النور: كاتب و مترجم سوداني.