بعد تجربة حكم الإخوان المسلمين المرة، لن ينخدع أهل السودان. لقد ذاق السودانيون العلقم، وعاشوا الهوان والاحتقار في ظل هذا العهد السيئ.
وثبت خواء هذه المجموعة الغوغائية من أي ضمير وفكر وموقف وبرامج على الأرض. يجب تحجيم أي حزب أو شخص عمل مع الإنقاذ أو أعانها أو استثمره إخوان الشيطان في إطار مشروعهم الفاشل، الذى دمر الدولة والإنسان، وأورثنا الهوان والذل بين الأمم.. ولا يجب ان يكون هناك أي استثناء؛ لأن من دعم هذا النظام، وقبل العمل في إطار هذا النظام الواضح السوء يجب ألا يؤتمن على صلاح حال الوطن مستقبلاً مطلقاً.
هذه التجربة المرة التي مازالت تسير بالوطن وأهله من سيئ إلى أسوأ، قد أثبتت أن نهضة السودان يجب أن تنطلق من داخل السودان ومن ثنايا القوى الوطنية السودانية الأصيلة. القوى التي نشأت ونبعت ونبتت في أرض السودان فكراً وجهاداً وتضحيات كتبت بالدماء والأرواح؛ لأنها الأجدر على تحسس آلام السودانيين والأقدر على التصدي لتطلعاتهم وآمالهم، والأكثر إحساساً بهمومهم وأوجاعهم؛ لأن السودان وشعبه هما ميدانها الذى ولدت فيه، وترعرعت عليه، وعاشت فيه، وكان مكان همها واهتمامها، ولأنها ليس لها أجندة دولية يمكن أن تحرق في سبيلها موارد السودان وحتى شعب السودان، كما فعل الإخوان المتأسلمين خلال الثلاثة عقود الماضية.
لن يستقر مستقبل السودان ولن يهنأ شعبه بالحرية والكرامة والع، ولن يستمر تماسك السودان في ظل هيمنة الأحزاب العابرة للحدود كلها بلا استثناء، وفي ظل وجود طبقة من تجار الانقلابات من بعض المهنيين والمتعلمين، الذين أصبحوا مطية يعرضون أنفسهم كلما دقت (مزيكة) لانقلاب جديد.
والناظر العادل للتاريخ السياسب السوداني قبيل وبعد الاستقلال حتى اليوم يرى حجم التدخلات الدولية التي كان مدخلها الأحزاب والقوى السودانية ذات الامتدادات الدولية، والتي ظلت تشكل مرمى رخواً في جدار الوطن تنفذ منه تلك التدخلات.
وأهل السودان مازالوا يذكرون أن الصراع والاختلاف حول الاستقلال الكامل للسودان لم يكن اختلافاً حول رؤية موضوعية، كما كان يدعى الاتحاديون والختمية، وإنما كان صورة حية وواضحة لسطوة الأطماع المصرية على أهل ذلك التيار، وهي أطماع ظلت رامية لاستمرار الهيمنة على السودان من أجل تجريده من استقلاله الكامل عن طريق بعض أبنائه ممن أتى آباؤهم ضباطاً في جيش المستعمر المحتل بقيادة كتشنر، ومن قبله في معية الأتراك تحت عباءة المصريين.
وحتى عندما انقشعت معركة الاستقلال لصالح تيار الاستقلال بقيادة حزب الأمة والجبهة الاستقلالية التي التفت حول حزب الامة (الذي كان الأجدر أن يسمى حزب الاستقلال)، لم يشأ المصريون قبول الهزيمة، وانما استمروا في تدخلاتهم من خلال الاتحاديين واأحزاب العروبية القومية.
لم يحتمل المصريون النظام الديمقراطي في الستينيات والثمانينيات، وضاقوا ذرعاً بالحرية التي انتزعها السودانيون من حكم العساكر؛ لأن النظام الديمقراطي فوق أنه يمثل استفزازاً لنظام الحكم المصري الاوتوقراطي، فإنه كان أبعد ما يكون عن العمالة، وأكثر التزاماً بالإرادة الوطنية المستقلة عن كل هيمنة او مرجعية إقليمية او دولية.
دعم المصريون مايو حتى أصبح حكم النميري في آخر أيامه مسخاً مشوهاً يرزح تحت سطوة الإرادة المصرية التي تدخلت في كل السياسات الداخلية؛ وهذا ما أدى إلى تدمير الزراعة، وإخراج عدد من المحاصيل من سلة الصادرات، وتدخلت في السياسة الخارجية للسودان حتى جعلت دولة السودان تحت الأبوة والهيمنة المصرية الكاملة.
وحدث الشيء ذاته في بداية الإنقاذ؛ إذ بادرت القاهرة مستعجلة كأول دولة اعترافاً بالانقلاب حتى قبل أن تتعرف إلى الذين يقفون من خلفه، وما ذاك إلا نكاية في تجربة السودان الديمقراطية وفي ابتعاد السودان عن الأبوة المصرية التي كانت في أيام النميري..
وظلت القوى السياسية والدينية العابرة للحدود منابع للشرور لأهل السودان وعانى السودانيون بسببها، ودفعوا كثيراً من الأثمان تمثل ذلك في تدخلات المعسكر الشرقي الشيوعي في شؤون السودان الداخلية في أيام نميري، فكان القتل والدمار في الجزيرة أبا وودنوباوي وغيرها من المواقع، وتمثل في دعم محاولات الانقلابات على الأنظمة الديمقراطية في أكثر من مناسبة، وما كان من دعم للتمرد على الدولة المركزية السودانية إبان الحكم الديمقراطي.
أرى أن أول شرط لاستقرار ونهضة السودان يجب أن يبدأ بكف أيدي طبقة تجار الانقلابات بتجفيف إمكاناتهم المالية، وإصدار قانون بحرمانهم من التمتع بالاستثمار في الأجواء الديمقراطية، وبتحجيم القوى الدينية والسياسية العابرة للحدود، وكف الدعم الخارجي لها من خلال القوانين الصارمة والرقابة اللصيقة واشتراط حرمانها من العمل في حال ثبوت أي دعم خارجي لها أو أي تدخل خارجي عن طريقها في شئون السودان.
والأهم من كل ذلك هو ضرورة العمل المستنير من أجل تشكيل كتلة تاريخية من القوى الوطنية السودانية الأصيلة. وارى أن هذا هو الشرط الأهم لخروج السودان من دوامة الفشل المتلاحق والتدهور المطّرد والانقلابات الشريرة، وهو العتبة الأولى نحو الاستقرار، وإعادة بناء الدولة السودانية، ومن ثم النهوض.
كل شعوب الدنيا نهضت بواسطة كتل متماسكة تمثلت في جبهات وقوى سياسية وطنية داخلية، ولم تنهض بواسطة هيمنة خارجية أو أذرع لقوى خارجية. وأرى أن هذا الهدف يجب أن تتبناه كل القوى الوطنية العاملة على تحرير الوطن من قبضة الأشرار حتى قبل التحرير.
وأرى أن حزب الأمة هو الأكثر تأهيلا للقيام بهذا الدور في إطار تحالف أوسع جديد.