كان في قرية (السُّودا) جمعيةٌ تعاونية من أواخر الثمانينيات.. بدأت هذه الجمعية واعــدةً ومتطلعةً وطموحةً وناظرةً إلي المستقبل بأمل كبير وأنجزت إنجازات كبيرة وفي مدة قصيرة..ولكن (ولأسباب كثيرة وعجيبة) تقلّٙصت كل ممتلكاتها وإنجازاتها في لوري (تيمس) قديم ومُصدِّي ومُتهالك يسوقه (عـم عُـمر) بالإضافة إلي أراضي واسعة ومترامية كانت يوماً ما مشروعاً زراعياً ناجحاً قبل أن يجف وينهار فيُهجٙر وتصبح أرضُه بوراً..
عـم عُــمر (ولأسباب كثيرة وعجيبة كذلك) أصبح مديراً وسيّداً ومالكاً للجمعية ولممتلكاتها..وهو كذلك محاسبها ومراقبها وخازن أموالها ومراجع حساباتها والآمر الناهي في كل شؤونها وأحوالها.. بإختصار (عــم عــمر) هو كل شئ وأيّ شئ فيها..
يستخدم القرويون هذا اللوري في التواصل بين قراهم المتناثرة وفي الإنتقال بهم إلي المدينة كل يومين ناقلاً منها وإليها حاجياتهم وبضائعهم ومرضاهم ودجاجهم وأغنامهم وجوالات محاصيلهم وصفائح الأجبان وصناديق الخُضر والفواكه والأدوية والأقمشة وخلافها..
(عـم عـُمر) كان رجلاً عسكرياً في وقتٍ مّٙا من حياته – بعض القرويين يعتقد أنه ما يزال علي رأس الخدمة!!!- ولهذا كان يسوق هذا اللوري ويديره (ويسوق) الفلاحين (ويديرهم) بالطريقة التي يراها وتناسبه هو، لا التي تناسبهم هم..ولا يستشير أحداً ولا يقتنع برأي أحد ولا يستمع لأحد إلّا ليستفزّٙه ثم ليقمعه !!.. وكون أن البعض يعتقد أنه عسكريٌ مدسوسٌ بينهم جعل منه بُعبعاً مخيفاً لا يعارضه أحد..يستغل لوري الجمعية لمصلحته الشخصية ولمصلحة أفراد أسرته ولا يٙركب معه في المقعد الأمامي أحد من أهل القرية مهما علا شأنه.
(والمُساعِـد الكبير) هو أحد أصدقائه المقرّبين والذي أتي معه سوياً إلي القرية حين جاء لأول مرة.. وهو نفسه أي -المساعد الكبير- لا يتولي قيادة اللوري إلا في غياب (عـم عـُمر) أو مرضه أو سفره لمدة قصيرة وأما إذا سافر (عـم عمر) سفراً طويلاً فيُعطّل اللوري ولا يستخدمه أحد.. وأما (المساعدون الصغار) فهم أبناء إخوان وأخوات (عـم عـمر).. يتناوبون علي (وظيفة الكماسرة والمساعدية) مع أبناء أصدقائه ومعارفه..(ويبرشتون) ويقتطعون من أجور اللوري ومداخيله لأنفسهم ما يشاؤون وكيف يشاؤون ولا يسألهم ولا يحاسبهم أحد !!!
هذا كله لم يكن مشكلة كبيرة..ولكن المشكلة الكبيرة أن اللوري نفسه أصبح قديماً ومترهِّلاً ومتهالكاً وصدِئاً وبطيئاً جداً وكثير الدخان وعالي الصوت وتتسرب الزيوت من كل مكان فيه ومتعطّلاً معظم الوقت..وفي كل مرة يشتكي الفلاحون (لعم عـمر) بطء اللوري ووسخه وقذارته وعجزه وتعطل مصالحهم تبعاً لذلك كان ينهرُهم ويزجرهم وإن قام بعمل شئ بعد ذلك فإنه يقوم بإستبدال إطار أو إطارين أو بطلي غطاء المكنة الخارجي (الكبوت) بلون جديد أو تعليق بعض الرسومات والشناشل والكشاكيش علي جانبي اللوري أو حتي بإستبدال صافرة (بوري) اللوري بأخري ذات نغمة مختلفة ولكن يظل اللوري هو نفسه كما هو بطيئاً ومتهالكاً وصدِئاً وآيلاً (للزبالة) كما كان دون أي تغيير جوهري.. ويظل (عـم عـُمر) متحكِّماً فيه وفي حركته ودخله ودخاخينه ووسخه وقذارته وكذلك في حركة فلاحي قرية (السودا)..!!!
إجتمع الفلاحون مرةً في مسجد القرية – بعدما ضاقوا أشد الضيق – وكان ذلك بمبادرة من أحد أبنائهم الأساتذة ليتفاكروا في ورطتهم مع اللوري ومع (عــم عُــمر)..
إقترح عليهم إبنهم الأستاذ أن يتساهموا فيما بينهم ويستنفروا أبناءهم المنتشرين في الداخل وفي المهاجر البعيدة ليساهموا معهم في شراء لوري جديد لخدمة قريتهم..وقال لهم إن لوري (التيمس) هذا المسمي زوراً (لوري الجمعية) قد أصبح موديلاً قديماً ولا يوجد أحد في العالم يستخدمه الآن ولا توجد له قطع غيار في أي مكان في العالم حتي في المصنع الذي أنتجه.. وفوراً إستحسن الفلاحون الفكرة وقرروا أن يبدأوا ومنذ الغد في تنفيذ هذه الفكرة الرائعة..
وساد الإجتماع فرحٌ غامرٌ وإنتشاءٌ طفوليٌ ساذج وبدأ الفلاحون يصافحون بعضهم ويتعانقون وأطلق أحدُهم (كوراكاً) شقّٙ الآفاق إبتهاجاً بهذا (التوافق) العريض والرأي السديد..
ولكن وقبل أن ينفضُّوا أشار إليهم إبنهم الأستاذ أنْ أجلسوا يا جماعة..ثم فاجأهم بهذا السؤال:
أها يا جماعة اللوري وإتفقنا عليهو..وإن شاء الله ربنا بعينا وبنجيبو عن قريب..أها بعد ما نجيبو في رايكم البسوقو ليكم منو؟! فتصايح الفلاحون كلهم جميعاً وبمختلف أعمارهم وبتلقائية وفي وقتٍ واحد: عـم عـُمر ما قاعد يا أستاذ..شيخ عمر يا أخوانا..أخونا عمر ماهو دا..مولانا عمر يا أخي..جنابو عمر يا جماعة..أيوة سيادتو عمر يا أستاذ..ثم فجأةً سكت الفلاحون كلهم جميعاً وفي لحظةٍ واحدة كأنما تذكّروا شيئاً صاعقاً مباغتاً وسادهم وجومٌ متحيّر ورهيب !!!
هنا فاجأهم إبنهم الأستاذ مرةً أخري قائلاً: أهااا علي الطلاق (عمكم عُمر) دا كان جبتو ليهو طيارة إلاّ يخليكم تقطِّعوا الشجر الجنب الطريق ويسوقها ليكم في الواطة دي في (نفس درب اللوري أب دخاخين دا)..عمكم عمر دا يا أخوانا ليكم تلاتين سنة ما شايفين سواقتو كيف؟؟!!!!..إنتو يا جماعة مشكلتكم أساساً في السّٙواق ما في اللُّوري !!!!
الآن وقد أُعلنت الأكذوبة الكبري المسمّٙاة حكومة الحوار الوطني وقد علّٙق عليها كل (فلاحي) السودان آمالاً وأحلاماً عراضاً.. ولكنهم لم يعلموا أن (جنابو عـُمر) لم يٙزِد علي أن طلٙي لهم (كبُّوت) المكنة بلون جديد وغيّر (بوري) العربية وعلّق علي جانبيها (شناشل) (وكشاكيش) ورسومات زاهية من لدُن (تراجي) (وتابيتا) وحتي سيدي المبارك المبروك.. وأما اللوري نفسه فما يزال علي حاله من الترهُّل والتصدِّي والدخاخين المتصاعدة والعجز والإطارات (المبنشِرة).. كما لا يزال (المساعد الكبير) (ومساعدو الحلة الصُّغار) (والكماسرة) هم أنفسهم بلا تغيير!!!
ومع عجز اللوري وتعطُّله وترهلو ودخاخينو تظل المشكلة ما في اللوري..المشكلة في (السّوّٙاق) يا جماعة الخير