أكثر ما يبعث على القلق ونحن نتأمل” الحالة السودانية” من وجوهها المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، هو ما بدأ يتسرب للنفوس، لاسيما وسط الشباب، من اليأس والقنوط من إمكانية إصلاح الحال وعلاج المشكلات العويصة التي يعانيها الوطن وتهدد مصيره بل وجوده نفسه.
أكثر من ستة عقود منذ أن رحل الاستعمار البريطاني، وشعب السودان ما زال يواجه قضايا معقدة وشائكة لا تتبدى في المدى القريب بوادر حلولها. فعلى الصعيد السياسي يغلب على الأحزاب، لا سيما المؤتمر الوطني الحاكم، تقديم أجندتها الحزبية على الأجندة الوطنية.
كما أن الاستقرار السياسي والإجماع الوطني على القضايا الكبرى والتحول الديمقراطي والتنمية الاقتصادية المتوازنة والمستدامة، ما زالت أمنيات عزيزة لا يبدو أنها ستتحقق على أرض الواقع. فالتطورات والأحداث السياسية التي عايشناها خلال حكم الإنقاذ وأهمها اتفاقية السلام الشامل، لم تفض إلى وحدة وطنية بين شقي السودان القديم، كما أنها لم تحقق الوضع الذي بشرنا به بعض الذين كانوا يظنون أن كارثة الانفصال ستكون مهراً للسلام والتعايش وتبادل المصالح بين دولتي الشمال والجنوب.
وما زالت الصراعات والحروب تدور في أجزاء من الوطن تُسْفك فيها الدماء وتُبدد الموارد الشحيحة. وما زال السودان متأثرا بالحصار، الذي نتج من سياسات النظام الحاكم، في علاقاته الخارجية مع عديد من الدول والمنظمات.
لقد عانى السودان أكثر من نصف قرن (52 عاما) منذ استقلاله من حكم أنظمة شمولية قابضة هيمنت على مفاصل السلطة والثروة ومارست بدرجات متفاوتة التسلط والعزل والإقصاء، كما عانى من فترات ديمقراطية قصيرة (عشر سنوات تقريبا) كانت متقلبة، وتميزت بالاضطراب والفوضى، وجعلت المواطنين يزهدون في الديمقراطية بأحزابها المتنافرة والمتشاكسة، ونقاباتها واتحاداتها وقواها النظامية المتمردة على السلطة الديمقراطية.
وعلى الصعيد الاقتصادي، وباستثناء بعض الإنجازات والمشروعات التنموية في الحقب المختلفة عجزت الحكومات الوطنية المتعاقبة عن ترتيب الأولويات، وضبط وتركيز التنمية الاقتصادية لنقل السودان، اعتماداً على موارده الطبيعية المتنوعة، من بلد فقير يستورد كثيراً من حاجاته الغذائية من الخارج إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي على أقل تقدير.
وعلى الصعيد الاجتماعي ظهرت مثالب كثيرة منها ما بدأ يطرأ من تغير في سلوك وصفات السودانيين التي ميزتهم من غيرهم، ومنها الظواهر الاجتماعية السالبة، والممارسات الضارة وبعض الجرائم الجديدة والغريبة على المجتمع السوداني التي بدأت تطفو على السطح.
تزايُد معدلات الفقر بين فئات المجتمع وارتفاع نسب البطالة وسط الشباب، والغلاء الطاحن لاسيما في لوازم الحياة المعيشية الضرورية، والأمراض المتفشية وتدني الخدمات الوقائية والعلاجية وغيرها، لا سيما في أطراف المدن والأرياف، والتدهور الذي أصاب مناهج ومؤسسات التربية والتعليم بمستوياته المختلفة، وتفشي ظاهرة الفساد والتعدي على المال العام والثراء الحرام، والعجز عن مواجهة ومحاسبة المفسدين واسترداد الأموال المنهوبة، وظهور فئات تمارس الدجل والشعوذة وبروز طبقة طفيلية تمارس المهن الهامشية، وغير ذلك من الممارسات الضارة التي تفشت بصورة مخيفة لاسيما في سنوات حكم الإنقاذ، كل هذا بلا شك ساهم ويساهم في إعطاء صورة قاتمة عن المستقبل وبصفة خاصة للأجيال الجديدة من الشباب من الجنسين، تزيد من حالة اليأس والقنوط وربما تدفع ببعضهم إلى أتون الضياع والتشرد.
ولقد ساهمت وسائل التواصل الحديثة بما يتم تبادله من معلومات وآراء، والجدل الذي يثور حول هذه القضايا المحبطة في وسائط وأجهزة الاتصال والإعلام المختلفة في تشكيل وعي الأجيال الجديدة من الشباب، وفي زيادة تأثير هذه المشكلات فيهم.
ومن الشواهد على حالة اليأس وفقدان الأمل في إصلاح الحال ارتفاع معدلات الجريمة بكل أنواعها، وزيادة الممارسات المنافية للقيم السودانية الأصيلة والسلوك السوي.
ومن إفرازات هذا الواقع المحبط تزايد الرغبة في الهجرة والاغتراب بين الشباب من الجنسين في الآونة الأخيرة بشكل غير مسبوق، وإلى أي وجهة يمكن أن تتاح لهم خارج الوطن، وربما دون أي هدف محدد أو غرض واضح أو ترتيبات مسبقة سوى الفرار من المعاناة والهروب من أتون العيش في وطن لا يجد فيه الشباب أبسط الحقوق ولا تتوفر لهم فيه الفرص التي تعالج قضاياهم وتؤمن مستقبل حياتهم.
إن أكثر ما يمكن أن يضر ببلادنا هو فقدان الأمل في المستقبل بين الشباب والشعور بالإحباط في بلد لا بد أن تكون الروح السائدة فيه وبين شبابه على وجه الخصوص، هي روح التفاؤل والأمل في المستقبل المشرق الواعد. فالسودان بموقعه وموارده وأبنائه ينبغي أن يكون أقوى من كل المحن، وليس كثيرا على شعبه ولا مستحيلا أن يفعل ما فعلته شعوب أخرى من حولنا. فعلى القوى السياسية السودانية مجتمعة وكل الهيئات والمنظمات والمجموعات والفئات المعنية بالشأن السياسي العام، أن تنتبه من غفلتها وأن تقرأ هذا الواقع المحبط بما يستحقه من جدية واهتمام، وعليها أن تتوافق على رؤية محددة بأولويات واضحة تبشر بها وتعمل لتحقيقها.
ويتحتم على كثير منها أن تنحي قياداتها الكسيحة العاجزة، وأن تفسح المجال لتجديدها وإسنادها للشباب المصادم المقدام الذين سقط من بينهم الشهداء والجرحى وهم يعبرون عن رفضهم لكثير من سياسات الإنقاذ طيلة السنوات الماضية.
على هذه القوى أن تتحمل مسؤوليتها في التصدي والمواجهة لتخرج شباب البلاد من حالة اليأس والقنوط الماثلة ولإحداث التغيير السياسي الديمقراطي الحقيقي الذي يتيح للسودان الاستفادة من موارده الطبيعية ويمكنه من بث الأمل في نفوس شبابه وإتاحة كل الفرص الممكنة لهم للنهوض بالبلاد وتسخير طاقاتهم لمعالجة قضاياها ومشكلاتها.
إن أمل السودان في شبابه كبير، وحتى إن عجزت الأحزاب السياسية عن القيام بالمطلوب منها، فالتفاؤل والثقة بقدرات الشباب على إحداث التغيير السياسي المأمول سيبقى رغم كل الإحباط والقنوط.