يقول لي صديقي السوداني الرسام عماد عبدالله: لماذا تريدون أن تصنفوا الرجل السوداني إنساناً طيّباً، وشخصاً أميناً؟! هذه أشياء فطريّة طبيعية، ووصف السوداني بها من غير إضافة أوصاف إيجابية أخرى إليها قد يكون أشد سلبيّة.
على كل حال، لا أدري ما الذي سيقوله لي (أبو أحمد) إذا اطلع على رواية (الرحلة العجيبة للفقير الذي ظلّ حبيسياً في خزانة إيكيا)، وهي الرواية التي كتبها الشاب الفرنسي رومان بيرتولاس وترجمها حسين عمر ترجمة كسيحة، وكان ما يجري في خلفية أحداثها الرئيسة، إنما هو تسجيل لمعاناة أبطال سودانيين يعيشون أحد مواسم (الهجرة إلى الشمال)، ويعيدونها الكرّة بعد الكرة، فيما يمكن أن نسميَه – تجوّزاً – (موسم الهجرة إلى الشمال في الألفية الجديدة)، والتحية والتقدير لذكرى الطيب صالح، رحمه الله.
يكتشف الهندي آجاتا شاترو، الذي اختفى في خزانة من خزانات شركة (إيكيا)، بسبب أنه يريد أن يبيت في متجر الشركة حتى الصباح، أنه انتقل بأيدي عمّال الشركة إلى شاحنة تحمل في صندوقها الخلفي بضعة مهاجرين سودانيين، هجرتهم غير شرعية، ينوون أن يخترقوا المجهول حتى يصلوا إلى بريطانيا، وكأننا هنا – في هذا المشهد على الأقل – نستعيد ذاكرة قراءتنا لرواية (رجال في الشمس) للفلسطيني الراحل غسان كنفاني.
وتصف الرواية هؤلاء السودانيين بأنهم (خشنوا الأصوات)، وبأن أصواتهم (تعبر بلغة مليئة بالمحاكيات الصوتية، وأصوات جافة، وفظة)، لكن أصحاب هؤلاء الأصوات هم الذين ينقذون البطل الهندي من الموت اختناقاً، ويستخرجونه من الخزانة (الإيكية)، ليحكوا له قصة هجرتهم المضنية إلى (الشمال).
تتعامل الرواية مع العالم الأول والثالث على أنهما عالمان، أحدهما (جنوب البحر المتوسط)، والآخر (شمال البحر المتوسط)، وتقدم بطريقة ساخرة (الشمال) على أنه الجنة الموعودة، والبلاد الجميلة، غير أنها لا تخلو من تصورات نمطية بعض الشيء عن السودانيين، وتخلط خلطاً واضحاً بين الأعراق في القارة الإفريقية، وتريح نفسها من البحث في الأمر بأن تعدّهم جميعاً زنوجاً! وإن كان يوجد فيها بعض الجُهد ومحاولة معرفة بعض الفروق بينهم.
تقول الرواية على لسان الراوي: (كانت اللكنة واضحة لا تشوبها شائبة. لا بد أن المتكلم كان زنجياً، ولكن لا بأس، من داخل خزانة غارقة وسط الظلام قد يبدو الجميع زنجياً على شاكلته).
ثم يقول: (الإفريقيون يعتنقون، بأعداد كثيرة، مذهب الإحيائية، ويهبون الحياة بسهولة لأي شيء، كما هو الحال إلى حد ما في آليس في بلاد العجائب، وفي حال لم يخبرهم بالحقيقة، قد يعتقدون دون أدنى شك بأنهم أمام خزانة تنطق، وبالتالي يطلقون ساقيهم للريح هرباً من هذا المكان الملعون، ويخطفون معهم الفرصة الوحيدة لإخراجه من الخزانة، وهو على قيد الحياة. كان لا يزال يجهل أن هؤلاء الرجال لم يكونوا إحيائيين، وإنما مسلمون، وأنهم، بسبب وجودهم في شاحنة ما كان بوسعهم أن يطلقوا ساقيهم للريح، والهرب بعيداً حتى وإن تمنوا ذلك ورغبوا فيه أشد الرغبة).
ثم يدور بين البطل الهندي والأبطال السودانيين في صندوق الشاحنة، وهو لا يزال حبيس الخزانة، هذا الحوار: (… ليس لدي ماء ولا طعام. هل يمكنكم أن تخبروني أين نكون من فضلكم؟/ نحن في شاحنة خاصة بنقل البضائع./ في شاحنة خاصة بنقل البضائع؟ يا للهول! هل نسير؟/ رد عليه صوت آخر: نعم/ أمر غريب، أنا لا أشعر بأي شيء، ولكنني أصدقكم إذا قلتم ذلك، كما أنه ليس لدي خيار. وهل يمكنني أن أعرف إلى أين نسير إن لم يكن هذا تطفلاً، وإفشاء للسر؟/ إلى إنجلترا).
وتستطرد الرواية عن المهاجرين على لسان أحدهم: (عددهم ستة أشخاص في هذه الشاحنة… جميعهم سودانيون… حسن… كان قد أُوقِف من قِبَل الشرطة الإيطالية… كان السبعة قد غادروا بلادهم… وكانوا يعيشون رحلة جديرة بكبرى روايات جول فيرن. انطلاقاً من مدينة سليمة السودانية – المنطقة الحدودية بين السودان وليبيا ومصر- عبر الرجال السبعة. هناك، قادهم مهربون مصريون إلى ليبيا، أولاً إلى الكفرة جنوب شرق البلاد، ثَم إلى بنغازي، في شمال البلاد. بعد ذلك انتقلوا إلى طرابلس حيث عملوا وعاشوا مدة ثمانية أشهر. ذات ليلة استقلوا مركباً مربعاً مع ستين شخصاً آخرين، وأبحروا بغية الوصول إلى شواطئ جزيرة لامبيدوزا. بعد أن تم توقيفهم من قِبل رجال قوات الدرك الوطني الإيطالية، تم نقلهم إلى مركز كالتانيسينا. وقد سهّل مهربون خروجهم لكي يحتجزوهم فيما بعد على نحو أفضل، ويطالبوا أسرهم بفدية لقاء إطلاق سراحهم. طالبوا بألف يورو، وكان هذا مبلغا فلكياً بالنسبة إليهم. وقد اشتركت بلدتهم في جمع المبلغ ودفعته لقاء إطلاق سراحهم. فتم تحرير الرهائن، ووضعهم على متن قطار يربط إيطاليا مع إسبانيا. وجدوا أنفسهم في مدينة برشلونة، معتقدين أن المدينة تقع في شمال فرنسا، وأمضوا فيها بضعة أيام قبل أن يتداركوا خطأهم، ويستقلوا قطاراً آخر ويتجهوا إلى فرنسا، وعلى نحو أدق، إلى باريس. باختصار، استغرق المهاجرون السرّيون ما يقارب عاماً كاملاً لكي يقطعوا بطريقة غير شرعية المسافة نفسها التي كان مسافر شرعي سيقطعه في إحدى عشرة ساعة من الطيران في أقصى تقدير).
وكما هو متوقع، فإن الرواية لا تنهي رحلة السواديين المهاجرين بنجاح، إذ تقبض عليهم شرطة الحدود البريطانية، وتعيدهم إلى ليبيا، وهناك، عندما تقارب الرواية طيّ صفحاتها، يلتقي البطلان، الهندي والسوداني، على الساحل الليبي، مع بعض التصورات الخاطئة والأخرى الصادقة جداً عن الأوضاع المضطربة في ليبيا، وعلى الرغم من إصرار السوداني على العودة إلى أوربا مرة أخرى، فإنه يتلقى مبلغاً مالياً ضخماً من صديقه الهندي، يقنعه بالعودة إلى بلاده، بدلاً من محاولة خوض التغريبة المريرة إلى (الشمال).
تقول الرواية: (كان الرجل السوداني الذي لن يستسلم أبداً ولن يتراجع عن السفر، لأن عودته إلى بلاده بخفي حنين ستكون في آن واحد بمثابة إهانة كبيرة وإخفاق شخصي وهدر فاضح للأموال بالنسبة إلى تلك القرية التي كانت قد استدانت له المال لكي يسافر، كان يستعد ويهيئ نفسه الآن لكي يعبر من جديد البحر الأبيض المتوسط نحو جزيرة لامبيدوزا الإيطالية الصغيرة. حينما نفكر في هذا الأمر سنقول: يا له من كبت وحرمان! لنفكر أنه قد وطئ أرضه الموعودة، إنجلترا، قبل بضعة أيام خلَت. كان هناك. لو أن الشرطة لم توقف تلك الشاحنة اللعينة فقط)… لكن: (فتح الرجل الهندي حقيبة النقود، وأمسك بالعديد من رزم الأوراق النقدية، عدَّها، ومن ثَم وضعَها أمام الرجل السوداني، هذا المبلغ هو لك… إنه لذويك وأهلك، أربعون ألف يورو. وفي الحال أغلق الحقيبة من جديد).
وفي الختام: إن رواية (الرحلة العجيبة للفقير الذي ظلّ حبيسياً في خزانة إيكيا) تدغدغ المشاعر الإنسانية لدى الإنسان الغربي والشرقي سواء بسواء، غير أنها لا تخرج عن التصور النمطي الغربي عن الحياة الشرقية وإنسانها، كما أنها من الناحية الفنية – بقطع النظر عن العجائبية المتعمّدة فيها – تسير على منوال الطرح الفكاهي السائد في سيناريوات آدم ساندلر وبين ستيللر، مع التطلع بعض الشيء إلى الاستفادة من نماذج سلمان رشدي وغسان كنفاني، مع شيء من التخفيف من الوطأة الوصفية على قارئ ما بعد الحداثة، الذي يعيش في هذا الوقت رهيناً لزمن وسائل التواصل الاجتماعي السريعة، التي تتسيّد في هذا العقد من القرن الحادي والعشرين.
* باحث ومحرر في مركز البحوث والتواصل المعرفي بالرياض
للتواصل:
فيسبوك: https://www.facebook.com/abdulwahed.alansary
تويتر: @abdulwahed1978
بريد إلكتروني: grnaty2@gmail.com