سؤال ظل يشغل بال المغتربين والمسؤولين على حد سواء لسنوات طويلة، ويحتاج إلى معالجة تشجع المغتربين بصورة جادة وتزيل عنهم عدم الثقة في سياسات وإجراءات الحكومة وإدارتها لشؤونهم والتي ترسخت لديهم لسنوات طويلة، وحالت دون إرسال تحويلاتهم واستثمار مدخراتهم من خلال القنوات الرسمية، بما يعود عليهم وعلى الوطن بالفوائد المرجوة.
فقد ظلت الدولة منذ أن بدأ تحصيل الضرائب أو المساهمة الوطنية وغيرها من الرسوم وبمسميات مختلفة في بداية ثمانينيات القرن الماضي، تقوم من حين غلى آخر بالإعلان عن شروط وإعفاءات للأثاث والمستلزمات الشخصية والمعدات الكهربائية والسيارات وغيرها من الأغراض للمغتربين أثناء اغترابهم وعند عودتهم النهائية للبلاد. وبالرغم من أهمية هذه الأغراض الشخصية إلا أنه يجب في رأينا الاهتمام بشكل أكبر بالمغتربين، في إطار مساعي الإصلاح الاقتصادي، وتحويل النظرة إليهم من “شرائح للجباية” وتحصيل الرسوم والضرائب والجمارك على أغراضهم الشخصية، إلى ” قطاع منتج”.
تحويل المغتربين إلى قطاع منتج يحتاج أولا إلى تصنيفهم إلى فئات مهنية وحرفية والتعرف على الخبرات العملية التي اكتسبوها في مجالات عملهم في بلدان الاغتراب ووضع سياسات تحفز أصحاب هذه المهن والحرف لممارستها داخل السودان لاسيما وأن أعدادا مقدرة منهم تخطط للعودة النهائية في ظروف الاغتراب الحالية المعروفة. الأمر الثاني هو ضرورة منح إعفاء كامل أو تخفيض كبير للجمارك وبتسهيلات وضوابط معقولة على الأجهزة والمعدات والأدوات التي يحتاجها المغتربون أصحاب الحرف، وبشكل خاص فئات العمال المهرة والفنيين الذين اكتسبوا المعارف والمهارات في أعمال وحرف محددة مثل: الميكانيكيين والكهربائيين والسباكين وفنيي الصيانة وسمكرة العربات والانشاءات والبناء بمختلف أنواعهم وفنيي المعامل والمختبرات وفنيي صيانة الحاسبات والإليكترونيات ومن في حكم هؤلاء، ممن مارسوا في سنوات اغترابهم أعمالا وحرفا هنالك حاجة ماسة لها في السودان في ظروفه الحالية. كذلك يجب الاهتمام بفئات المهنيين مثل الأطباء والمهندسين بمختلف تخصصاتهم والأساتذة والمعلمين والمحاسبين والمستشارين وغيرهم من الفئات المهنية وتحفيزهم بإدخال مستلزمات ممارسة هذه المهن داخل السودان، وأن يتم تحديدها بطريقة موضوعية ومحفزة ووفق ضوابط صارمة.
ولا بد أن تستخدم الجهات المسئولة عن تنفيذ حوافز المغتربين أساليب وإجراءات مرنة بحيث يتم تحفيز المغتربين بصورة أكبر وأيسر إن كانت هذه الحرف والمهن ستؤدي لتوفير فرص عمل للشباب، وكذلك في حال رغبتهم ممارسة أعمالهم خارج العاصمة في القرى والأرياف ومناطق الانتاج الزراعي والحيواني بالولايات المختلفة. ويجب في رأينا تحفيز المغتربين كأفراد أو جماعات (جمعيات وروابط وتجمعات) بإعفاءات وميزات تشجيعية للإسهام بالاستثمار لتطوير مناطقهم في أنحاء السودان المختلفة. ويمكن أن يتم هذا من خلال التنسيق والشراكة مع بعض الشركات في القطاع الخاص أو المؤسسات والأجهزة الحكومية في إطار ضوابط محددة تحفظ حقوق جميع الأطراف وتضمن الفوائد المشتركة.
من الآراء التي نرى وجاهتها عند منح الاعفاءات أو التخفيض الجمركي سواء للأغراض الشخصية أو السيارة أو المستلزمات الحرفية والمهنية التمييز بين المغتربين بمدة الاغتراب أي عدد السنوات التي قضاها الشخص مغتربا. ويمكن التحقق من وفاء المغترب أثناء سنوات اغترابه بسداد التزاماته، وأن يؤخذ بالاعتبار عدد أفراد أسرة المغترب، ومستوى دخله وغير ذلك من الضوابط. ومن الضروري أيضا إعطاء اهتمام خاص للأرامل والأيتام الذين فقدوا عائلهم، وذوي الاحتياجات الخاصة عند منح الاعفاءات. إضافة لهذا نرى وجاهة الرأي الذي يقول بعدم اشتراط العودة النهائية لمنح اعفاءات الأغراض الشخصية والسيارة حيث أن أسر كثير من المغتربين موجودة بالسودان، والأغراض الشخصية كالأثاث والمعدات الكهربائية وغيرها وحتى السيارة هي أصلا لاستعمال الأسرة، فضلا عن أن المغترب قد لا تتوفر له الامكانيات المادية عند انتهاء عمله ببلد الاغتراب لشراء أغراضه الشخصية جملة واحدة، ولهذا يحتاج لجدولة شرائها وإرسالها. وعليه وما دام الاعفاء يمنح مرة واحدة أثناء الاغتراب ولكميات وأعداد محددة من الأغراض الشخصية فمن المنطقي أن يؤخذ بهذا في الاعتبار وكذلك بعدد سنوات الاغتراب.
لا بد أيضا من تسهيل التعامل مع البنوك للقيام بدورها في جذب تحويلات المغتربين، ومنح القروض والتسهيلات لهم، واستحداث برامج مفيدة وجاذبة للمغترب فيما يتصل بتخصيص الأراضي السكنية وتوفير مواد البناء بطريقة ميسرة، وتعليم الأبناء في المدارس والجامعات يراعى فيها فئات المغتربين ومستويات دخولهم وقدرتهم على الوفاء بما يترتب عليهم من التزامات مالية. ومن أهم ما يشغل بال المغترب تأمين معاشه عند العودة النهائية، وربما يتم ذلك من خلال برنامج للتأمين والضمان الاجتماعي يسهم فيه من يرغب وفق ضوابط وإجراءات محددة. وكذلك يمكن النظر في تشجيع وجذب استثمارات الراغبين من المغتربين من خلال وسيط خارجي في كل بلد من بلدان الاغتراب لزيادة الثقة بين المغترب وجهاز المغتربين والأجهزة الحكومية ذات العلاقة. وفي هذا الإطار نرى ضرورة دراسة جدوى إنشاء “بنك المغتربين” لتعزيز جهود التعامل مع المغتربين ” كقطاع منتج”.
ومن الخطوات الهامة التي لابد أن تبادر بها الحكومة، في ضوء مساعي الإصلاح الاقتصادي وما أشرنا إليه من مقترحات في هذا المقال وغيرها، إعادة هيكلة جهاز المغتربين وتحديد وتطوير مهامه بهدف زيادة فعاليته في التعامل مع المغتربين “كقطاع منتج” لتشجيعهم وتحفيزهم للإسهام في دعم اقتصاد البلاد. ومن الضروري كذلك إعادة النظر في الدور الذي تلعبه السفارات والقنصليات ببلاد الاغتراب لتقديم الخدمات اللازمة التي تدعم ما أشرنا إليه من خطوات. هذا ولابد من التعرف على تجارب وأنظمة الدول الأخرى التي تصدر العمالة لدول الاغتراب في منطقة الخليج وغيرها، والتي نجحت في جذب تحويلات واستثمارات مغتربيها وتمكنت من الاستفادة منهم وإدماجهم في اقتصاداتها “كقطاع منتج”.