يوم 17 نوفمبر 2018م تكون قد مضت ستون عاما على ثورة 17 نوفمبر 1958م، أو الانقلاب العسكري الأول أو إن شئنا عملية التسليم والتسلم التي أتت بالفريق إبراهيم عبود، عليه رحمة الله، رئيساً للبلاد.
وبعض الذين شهدوا تلك الفترة يذكرون سيرته الطيب،ة وأخلاقه الفاضلة التي تميز بها في أثناء فترة حكمه، وحتى بعد أن تنازل عن السلطة، وإلى أن انتقل إلى رحمة الله في 8 سبتمبر 1983م عن عمر ناهز ثلاثة وثمانين عاماً.
من بين الشهادات التي أوردها موقع موسوعة التوثيق الشامل لعدد من السياسيين وأصحاب الفكر والرأي عن الفريق عبود نجد شهادة الأستاذ الصحفي محجوب محمد صالح يقول فيها: “من الشخصيات التي لم تغيرها السلطة، دخلها كرجل بسيط وضابط منضبط وعسكري مهني، عاش بنفس صفاته تلك إبان حكمه، لم يحاول أن يبحث عن أضواء أو أن يفرض نفسه أو يدعي شيئاً، عاش حياة بسيطة حتى وفاته”. وواضح أن شهادة الأستاذ محجوب عن “شخص عبود” وليست عن نظام حكمه العسكري.
حين ثار السودانيون في أكتوبر 1964م على نظام الحكم العسكري، وأيقن الفريق عبود أن السودانيين بمختلف أحزابهم وفئاتهم لا يريدون حكم العسكر، زهد في السلطة، وتنازل عنها بصورة أدهشت الناس.
وفي هذا المعنى نجد شهادة الدكتور منصور خالد:”كان قراره بالتنحي عن الحكم هو قرار الرجل السوداني الكبير الذي يدرك معنى التراحم، فقد أبى أن يكون البقاء على أجداث الرجال”.
تنازل عبود عن الحكم دون تردد، ما كابر ولا استبد ولا أصر على البقاء كما هي عادة العسكر الذين حكموا بلادهم في تلك الفترة، وما بعدها في إفريقيا والمنطقة العربية، وأولئك الذين حكمونا في السودان وما زالوا يحكمون!
طوال فترة حكمه ما سمع الناس الفريق عبود يتباهى بإنجازاته التي كانت عظيمة بمقاييس عصره، ومنها خزان الروصيرص، وخزان خشم القربة، ومصانع السكر، ومصانع النسيج، ومصانع تعليب الفواكه والخضر، وغيرها من الصناعات في كثير من مدن السودان. ومنها كهرباء سنار، وكهرباء بري، وبداية طريق الخرطوم مدني، وتوسيع ميناء بورتسودان، ومرافق النقل النهري والبحري والجوي، وتطوير السكة حديد، وامتداد المناقل ومناشير الغابات في الجنوب، وتطوير الإذاعة والتلفزيون، وبنك السودان، والبنوك التنموية وغير هذا كثير.
ما عرف السودانيون في الرئيس عبود ميلاً ولا طمعاً لعمل أي شيء مهما كان لمصلحة شخصية، فقصة بيته الذي لم يكتمل حتى بعد أن ترك السلطة معروفة! بل إنه لم يفكر حتى في أن يحظى برتبة عسكرية أعلى. فمن يصدق أن الرئيس إبراهيم عبود تدرج في الرتب العسكرية إلى أن وصل رتبة اللواء في 15 أغسطس 1954م أي قبل الاستقلال، ثم إلى رتبة الفريق في 6 يناير 1957م، أي قبل أن يتسلم السلطة رئيساً للبلاد، وظل على رتبته العسكرية نفسها إلى أن توفاه الله!
كنا ونحن صبية نردد مع الفنان الكبير محمد وردي، رحمه الله، نشيده لثورة 17 نوفمبر 1958م بكلماته البسيطة ولحنه الأثير: أبشر وطني هلل وكبر في يوم الحرية، بسبعطاشر بُعِثَتْ ثوره ثورتنا السلمية، جيشنا الباسل هب وعلا راية الجمهورية! وكان وردي يومها فناناً شاباً غض الإهاب، ما خبر مثالب وعيوب حكم العسكر في تلك الفترة الباكرة من مسيرته الفنية مثلما خبرها، وعانى منها في مقبل الأيام وأصبح، بمواقفه وأناشيده الخالدة، حادياً للثائرين ضدها. وأذكر أنه شرح كل هذا بشجاعته المعهودة في أحد لقاءاته التلفزيونية. ولما سقط نظام عبود وانتصرت ثورة أكتوبر أنشدنا مع وردي: أصبح الصبح ولا السجن ولا السجان باقٍ!
رجل مثل الفريق عبود، رحمه الله، يستحق في رأيي، وبرغم مساوئ حكم الأنظمة العسكرية المعروفة، أن يبقى في مخيلة السودانيين رمزاً من رموز الوطن، بمهنيته العسكرية المثالية، وحكمته المعهودة، وإنسانيته، وأخلاقه الفاضلة.
وربما يردد بعضنا، لاسيما الذين عاصروا زمانه، قول الشاعر هاشم السعيد، رحمه الله، على لسان إحدى “الحبوبات”، وهي تذكر الفريق عبود بخير:
حليل عبود وحليل أيامو الزيني
الحكم لامِنْ مَرَق ما سَوا شيني!