أكثر ما يؤلم في خطاب الرئيس عمر البشير أنه لم يأتِ على مستوى الأحداث، والنتائج التي يمكن أن تترتب عليها، حتى يبدو للمتابع أن هناك تعالياً منه، أو ضبابية تحجب عنه القراءة الصحيحة، أو عناداً مصدره طبيعته الشخصية، وفي كل الأحوال هناك عدم إحساس بخطورة ما تمر به البلاد اليوم، وأن يكون ذلك من هرم السلطة فإنه ينذر بمآلات وخيمة.
ويبدو لي أن عدم تقدير خطورة الموقف سببه أن لا صوت
يعلو على صوت الرئيس، ولا أحد يجروء من المقرَّبين منه أن يصارحه بالحقيقة المرة،
حتى تأتي الخطوات محسوبة.
والحقيقة التي يهرب منها الرئيس أن المواطن لم تعدّ
لديه طاقة للصبر، بعد الفشل الذريع لنظام الإنقاذ، الذي لا يحتاج إلى أدلة وبراهين
منا، أو من أي ناقد للنظام، لأن السيد الرئيس اعترف ضمناً بهذا الفشل في مستهل
خطابه الجمعة حين قال: “أخاطبكم اليوم وبلادنا تجتاز مرحلة صعبة ومعقدة في
تاريخها الوطني، وبمثلما ظل شعبنا صامداً في وجه الأيام كلما قابلته الظروف وأحاطت
به التحديات سنخرج إن شاء الله من هذه المرحلة أقوى شكيمة ، وأكثر وحدةً ، وأكبر
إصراراً على استكمال بناء أمتنا المستقرة والناهضة والمتطلعة إلى المستقبل، وتظل
التحديات والابتلاءات أقداراً مسطرة في حياة البشر لم يسلم منها حتى الأنبياء
والرسل، وخاضت غمارها كل الأمم والشعو “.
إن هذه الفقرة التي نطقها بها الرئيس كافية لمعرفة ما
آل إليه الوطن، فهو في “مرحلة صعبة ومعقدة”، وهو يمر بتحديات وابتلاءت،
فإذا كان الأمر كذلك بعد 30 عاماً من الحكم، فهل يمكن عقلاً ومنطقاً أن يكون هناك
بصيص أمل في إصلاح؟
المفارقة أن الرئيس وزمرته لم يستطيعوا الصبر على
حكومة ديمقراطية منتخبة من الشعب أربع سنوات لتقدم كتابها، ليحكم الشعب لها أو
عليها، ويريدون منا أن نصبر صبر الأنبياء لنخوض معهم غمار “التحديات
والابتلاءات”، بعد ما عشناه من جدب وشظف وصلف وإقصاء سنين عددا.
والاعتراف الثاني بالفشل أن الرئيس حين أراد أن يغازل
الشباب ذكر أن “كل المشروعات الكبرى التي قامت في عهد الإنقاذ من طرق وجسور
وجامعات والتصنيع الحربي والمدني والسدود وشبكات الكهرباء والمياه” قامت
بأفكار الشباب وطاقاتهم، وإذا نظرنا إلى المشروعات التي وصفها بالـ (كبرى) ندرك
ضآلة ما أنجز الإنقاذ، في مقابل فداحة الخسائر التي تكبدها الوطن من انهيار
المشروعات الوطنية التي كانت قائمة، مثل: مشروع الجزيرة، والسكة حديد، والخطوط
الجوية السودانية، وبيع سفارات السودان في الخارج بثمن بخس، وتدهور الصناعة وهروب
رأس المال السوداني إلى دول الجوار، دعك من الفساد الذي أتى على ثروات البلد من بترول
ومعادن ومنشآت صناعية كانت راسخة، بل إنَّ كل المشروعات التي ذكرها الرئيس فيها من
الثقوب والعيوب ما لا يحصى ولا يعد، وقد حمّلت الأجيال المقبلة ديوناً ستُثقل
كاهلها، وتعوق تقدّمها، ويكفي أن يسود الظلام كل البلاد لساعات لأن السدود التي
أنشئت ودمرت الزراعة وهجّرت المواطنين وأنهكت البيئة ونشرت الأمراض ما زالت عاجزةً
عن تأمين الكهرباء.
وما يؤكد عدم تقدير الموقف وخطورته قول الرئيس: “الآن
وبعد ما أنجلى ذلك الموقف”، فبالله عليكم: ما الموقف الذي انجلى، والناس في
الشوارع، والرصاص الحي يحصد الأرواح، والغاز المسيل للدموع يسبب العاهات للشباب،
ويميت المرضى وكبار السن اختناقاً؟
والأكثر إثارة للدهشة والعجب أنه “تابع
الاحتجاجات متابعة دقيقة”، أي دقة هذه؟ للأسف أن هذا التشويش الذي بدا عليه
الرئيس سببه الاعتماد على تقارير “الموظفين لا المسؤولين”، ولهذا ظل
يردد أن وسائل التواصل تهوّل الأمر.
إن تأثير المظاهرات ليس في الكر والفر بين المتظاهرين
ورجال الأمن، ولكنه في عدم سير الحياة اليومية سيراً طبيعياً، وفيما يتكبده
الاقتصاد من خسائر فادحة، وفي توجيه الموارد القليلة المتاحة للحل الأمني، وتتجلى
حقيقة الوضع الاقتصادي في الانهيار اليومي الذي تشهده العملة الوطنية.
وهذا التعامي عن الواقع هو ما جعل طرح الرئيس خياراً
صفرياً وعدمياً بجدارة، فهو يسد كل أبواب الحل لأزمة لم تشهد البلاد مثيلاً لها،
وقد خلقها نظام الإنقاذ بإقصائيته وأنانيته المفرطة، ويبدو أنه يسير في درب العناد
والتعالي حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
وهنا تتبدى التناقضات، ففي جلّ الخطاب يتحدث الرئيس عن
إيمانه بالحوار وبالشباب وبالتنوع والمشاركة السياسية، ثم يجعل وثيقة الحوار
الوطني مرجعية لمزيد من الحوار واستقطاب المعارضين، في حين أنه يرى ويلمس بوضوح
كفر كثير من شركاء النظام بهذه الوثيقة، وإذا كان الأمر كذلك، فماذا عمّن يرفضونها
جملة وتفصيلاً.
وبعد أن ذكر رئيس جهاز الأمن والمخابرات أن الرئيس
سيتخلى عن رئاسة المؤتمر الوطني، اكتفى هو بالقول إنه سيكون على “مسافة واحدة
من الجميع”، وهذا العبارة تحديداً استهلكها حتى مجّها الناس، فكان يمكن البحث
عن عبارة أخرى تؤدي المعنى، وفي كل الأحوال لن تكون مقنعة لأحد، لأن الحكم
بالأفعال لا بالأقوال.
وبعد التبشير بإلغاء التعديلات الدستورية في اجتماع
قوش، قال الرئيس بتأجيلها، وهذا يبقي على تطلّعه لفترة رئاسية جديدة، مما يعني أنه
يصر على أن يصل إلى مرحلة الكرسي مثل رئيس الجزائر بوتفليقة.
أما حديث الكراهية الذي أرعب أهل السلطة ومن شايعهم من
الإعلاميين فيطرح سؤالاً: من الذي يصنع الكراهية؟ المقهورون الذين مطلبهم أبسط
مقومات الحياة، أم القاهرون الذين يريدون الحصول على كل شيء، ولا يتركون للآخرين
حتى الفتات؟ الهاتفون بحناجرهم (سلمية.. سلمية) أم الذين يوجهون الرصاص إلى الصدور
والرؤوس، كما لو كانوا في مواجهة عدو مدجج بالسلاح؟
إن الشيء الإيجابي في حديث الرئيس هو اعترافه بوجود
أوضاع تحتاج إلى ترقية وأداء حكومي فيه خلل، وهما يجعلان من حق الناس أن يخرجوا
معترضين عليهما، ومطالبين بإصلاحهما، ولكن السلبية تكمن في تكرار حديثه عن مستغلين
للوضع، ممن يخرجون الاحتجاجات عن مسارها، في حين أن القاصي والداني يعلم علم
اليقين أن هذه الاحتجاجات لم تخرج أبداً عن سلميتها على مدى أكثر من شهرين، بل سجَّل
المتظاهرون مواقف نبيلة تنبع من المنظومة القيمية الراسخة لأهل السودان.
أما قمة الدراما فتمثلت في قول الرئيس “إنه لا
بديل من الحوار إلا الحوار” ثم إعلانه الطوارئ في البلاد مستدعياً خبراته
ومسؤولياته، كما قال، فكيف يمكن الجمع بين هذين الأمرين المتناقضين؟ وإذا لا تعني
الطوارئ الانحياز للحل الأمني فماذا تعني؟ ويمكن القول إن ما أتاه الرئيس من تناقض
كمثل الذي يربط شخصاً ويرميه في البحر، ويطلب منه السباحة.
ويبدو أن هذا الخطاب وما تضمنه من خطوات جاء على عجل،
ومن دون تروٍ، أو بعناد من يرى أن قوله الفصل، فلا يمكن أن يكون هذا نتاج شورى
وتبادل للرأي.
وقد بلغ الرئيس “الصفرية” التي نهى عنها وحذَّر
منها بنجاح منقطع النظير، وكان الرد من المتظاهرين: “الشارع بس”.
فهل أراد الرئيس أن يضع الشعب والجيش في مواجهة؟ سؤال
يملك إجابته الرئيس فقط، لأنه من اتخذ القرار مستصحباً رصيده المعرفي الوطني! كما
قال، أما ما أثق فيه أن جيشنا دوماً ينحاز إلى شعبه، الذي يقدّر تضحياته
ومسؤولياته في حماية الوطن.
حمى الله الوطن من شرور بعض أبنائه وطمعهم وأنانيتهم.