فاق نظام الإنقاذ كلَّ الأنظمة الديكتاتورية في فقدان
البوصلة وعدم فهم حقائق الواقع، فظلَّ يرتكب حماقات تشير إلى انعدام الرشد في هذا
النظام.
خرج علينا الرجل الثاني في الجبهة الإسلامية القومية
التي انقلبت على النظام الديمقراطي ونعني علي عثمان محمد طه مهندس انفصال الجنوب
ليهدد الشعب عياناً بياناً بميليشيات مسلحة تحمي النظام، مهما كلَّف الأمر، ليهبط
في نظر بعض المخدوعين من مرتبة المفكر والسياسي الحاذق إلى مرتبة البلطجي، الذي
يهدد، ويفرض منطق القوة لينال ما يريد.
وعندما أصدرت الجنائية الدولية حكمها وأمرت بالقبض على
رأس النظام محددة عدداً من زمرته ليواجهوا تُهَم الإبادة الجماعية وارتكاب جرائم
ضد الإنسانية، لم يصدق كثيرون، إلا أن هؤلاء أصبحوا اليوم بعد جرائم القتل التي
ارتكبت في عاصمة البلاد الخرطوم وحواضر الولايات بدم بارد على يقين بأن هذا النظام
يمكن أن يرتكب من الجرائم ما لا يخطر على بال بشر من أجل أن يستمر، إذ لم يسلم من
بطشه خلال المظاهرات الاحتجاجية السلمية لا طفل ولا امراة ولا شيخ كبير، ولا مرضى،
بل لم تسلم الأعراض، وهذا ما يؤكد أن لا سقفاً أخلاقياً لهذا النظام.
في الأخبار أن محكمة الطوارئ حكمت على الطبيب محمد عبدالكريم
محمد عبدالرحيم، الذي تخرج في كلية الطب بجامعة الزعيم الأزهري، ويعمل مساعد تدريس
في الكلية بالسجن ثلاث سنوات بعد اعتقاله من أمام منزلهم بجبرة بتهمة “الاشتراك
في مظاهرة وأعمال شغب”.
هذه حالة واحدة من الأحكام الجائرة التي تعيد إلى
الأذهان ما عرفناه عن محاكم التفتيش التي تعلق المشانق لأهون الأسباب.
وبقراءة بسيطة نجد أن السلطات كلها انتهت إلى يد رئيس
الجمهورية، الذي يشكل المحاكم، ويحدد العقوبات، ويأتي بالقضاء ليجلسوا في الشارع،
ويصدروا أحكاماً فورية بلا أي كفالة لتقاضٍ سليم، مما يمثل انتهاكاً للحقوق الأساسية
للمواطن، ويجعله عرضة لأحكام تعسفية، ومصادرات، وانتهاك الحرمات، وهذا ما يعني
تجريده من أي كرامة.
أما السلطة التشريعية فتقف اليوم موقف المتفرج، بل
المشجع والمبرر للتغولات التي يمارسها رئيس الجمهورية عليها، وهي بهذا تستمر في
أدوارها التي ظلت تؤديها منذ الانقلاب المشؤوم في يونيو 1989م.
ومع مصادرة سلطة القضاء، وتهميش السلطة التشريعية، يضع
رئيس الجمهورية الجيش في مواجهة الشعب، وهذا ما ينذر بمخاطر حذَّر منها في خطابه
الشهير، الذي تضمن إجراءات تعني تطبيق مبدأ “أنا وبعدي الطوفان”.
لقد رمى رئيس حزب الأمة القومي الصادق المهدي طوق
النجاة إلى الرئيس البشير في “كبسولة التحرير” التي قدَّمها، حين طالبه
بالتنحي “ليقوم نظام جديد يحقق السلام العادل الشامل، والتحول الديمقراطي
بصورة قومية وبلا مخاشنة”، لأن هذه الخطوة وما ترتبط بها من خطوات، مثل: رفع
حالة الطوارئ، وإطلاق سراح المعتقلين، وعودة الجيش إلى دوره في الدفاع عن الوطن،
من شأنها تحقيق مخرج آمن للبلاد يقدره للبشير أهل السودان والتاريخ، “ويحوّل
الاستقطاب الحاد لوحدة وطنية والعزلة الدولية إلى تعاون دولي”.
لكن السؤال: هل يجدي مثل هذا النداء مع نظام أدمن
تغيير جلده، والتضحية بمن يشاء في سبيل أن يستمر، حتى لو كان المضحى به “من
ذهب إلى السجن ليذهبوا إلى القصر”.
إنَّ النظام يصر على المرور بكل حلقات الطغاة في مسلسل “السقوط”، واستنفاد كل رصيد أخلاقي، إذا بقي له رصيد في الأصل.
ويرسم النظام بممارساته مستقبله في الخريطة السياسية
السودانية، ويسهل على البديل الديمقراطي كنس آثاره، ويدفعه إلى ترجمة شعار الشعب سيد
القرار شعار “كل كوز ندوسو دوس”، ليصبح واقعاً لا بدافع الانتقام، وإنما
بإعمال القانون ومحاكمته محاكمة عادلة لينال كل من أخطأ في حقّ الوطن جزاء ما اقترفت
يداه من آثام.