هذه الثورةُ الظافرة إنتصرت بإذن الله..ولم يتبقَّ الآن إلا أن يُعلن إنتصارُها إما بإنسحابِ الخصم، وهو الأفضل للطرفين، أو بإقتلاعه عنوةً، وقسراً بالضربة القاضية، وهذا إقتلاعٌ قد يكون عسيراً، وقاسِياً، وباهظ الكُلفة إذا قاوم الخصم الإقتلاع برغمِ هزيمتِه !!
ولكن، وفي خِضم هذا الأسي، والتوجُّس، والدموع، والخوف، وإنتظار المجهول، فإنَّ هناك ثلاث جهاتٍ يمكنُـها أن تصنع مواقفَ الآن، وفي خلال الساعات القليلة القادمة، وتسجل أسماءها بشكلٍ مَّا في سجل تاريخ السودان.. ساعاتٌ قليلة تفصلُ بين هذه الجهات الثلاث وبين تأثيرها إيجاباً في تشكيل واقع، وتاريخ هذه الأمة وبقوة، أو أن تترك للتاريخ أن يحدد لها مساراً مختلفاً لن يكون مشرِّفاً لها علي كلِّ حال..
أول الجهات الثلاث هو الرئيس البشير نفسُه، وبرغم الدمار الشامل الذي ألحقه بالبلاد وبأهلها، وبثرواتها، وبسمعتها وبمقدراتها..يمكنه في الساعات القادمة أن يصنع لنفسه موقفاً واحداً مشرِّفاً ربما يشفع له بعضَ شفاعة أمام الناس، وأمام نفسه وأهله، وأمام التاريخ..
أن يُعلن إستقالته وتسليمَـه السلطة إلي المجلس المقترح، وأن يعتذرَ لشعبه كما أعتذر بوتفليقة.. طبعاً لن يتسامح معه الشعبُ السوداني بكل أطيافه وإن فعل، ولن يسامحه الشعب كله كذلك، ولكنه حتماً بهذا الصنيع سيقسِّمُ إرادة الناس إلي إرادتين: متسامحة، وطالبة للإنتقام، وهو وضعٌ في كل الأحوال خيرٌ للبشير من أن يكون كل الشعب ضده، وغير متسامحٍ معه، ومطالباً بمحاسبته وسحلِه..
وفي تاريخ السودان السياسي القريب ليس هناك رئيساً إنقلابياً واحداً تمت محاسبته، أو سجنه او شنقه !!
• ثاني هذه الجهات هو الفريق حميدتي الذي لم تشارك قواتُه حتي الآن لا في قتل المتظاهرين، ولا حتي في القمع، والسحل، والتهشيم..وهو نفسُه كان قد نفي ذلك مراراً، وقال إنّ قواته ليست لمواجهة (العيال) المتظاهرين ولكنها لمواجهة (الرجال) من حَمَـلة السلاح في الميدان..
وهذا موقفُ الرجلِ البدويِّ البسيط في بادية السودان الذي يعرفُ بالبداهة المتوارثة أنه من المعيب للرجل المسلَّح أن يواجه بالسلاح غير الرجل المسلح -مع ما في هذا من تحوطات وتحفظات-!!
أنا شخصياً أقدّر ذلك للفريق حميدتي، لأنَّ إمتناع قواته المعروفة بالشراسة والقسوة حتي الآن عن التدخل ضد المتظاهرين قد حقن، وبلا شك، دماء عزيزة كان يمكن أن تكون قد سالت الآن علي ضفاف هذه الثورة المنتصرة وبإذن الله، وذلك بفضل الله، ورعايته ولطفه، ثم بفضل هذا الموقف البدوي البسيط للفريق حميدتي..برغم ما هو معروف عن مواجهات هذه القوات لحمَلة السلاح، وما رافقها من قتلٍ، وحرق، وإبادات في مناطق الحرب..أقدِّر له هذا الموقف منعزلاً عن كل مواقف أخري!!
والآن فإن بوسع الفريق حميدتي أن يتمرَّد علي السياج الشديد الذي يضربونه حوله منذ مدة، وبإمكانه أن يغتسل من بعضِ أدران الحرب التي علِقت بأثواب قواته، وأن يعلن وبالصوت العالي أنه يقف إلي جانب شعبه، وإرادته، وإختياره بلا تردد.. وليكن معلوماً للفريق حميدتي أن موقفاً كهذا، وفي هذا الظرف العصيب، وأمام الشعب السوداني الذي نعرف جديرٌ أن يصعد به إلي أعالي الرجولة والبطولة لأنه به سيحسم تماماً حالة الوضع المتوجِّس، والمتلبد برغبة القتل عند الحكومة، وسيحقن دماءً غزيرةً وعزيزة تخطط هذه الحكومة لسفكها في الساعات القليلة القادمة لا سمح الله..
الآن بإمكان الفريق حميدتي أن يصنع موقفاً لن ينساه له الشعب، وربما سيتسامح معه عن كثيرٍ من المآسي التي ترتبت علي حرب دارفور ومشاركة قواته فيها..
وبالمناسبة، ولتحقق ذلك، لابد أن تسمع قوات الفريق حميدتي منا جميعاً، ومن تجمع المهنيين تخصيصاً أنها ستُعامل بالحسني، وأنها سيتم إعادة تأهيلها، ودمجها ما أمكن في القوات النظامية بعد إعلان إنتصار الثورة وزوال نظام الإنقاذ.. ويجب أن ندفع كلنا جميعنا في هذا الإتجاه إذا أعلنت هذه القوات وقائدها الفريق حميدتي إنحيازها لخيار الشعب في التغيير الآن الآن وليس غداً..
• وآخيراً فإذا أعلن أيُّ قائدٍ لأي قيادةٍ عسكرية بالأقاليم كالقيادة الغربية أو الشرقية مثلاً إنحيازه للشعب ولخياراته، فسوف تحسم كل القيادات الأخري أمرها، بل ستحسم القيادة العامة نفسُها هذا التردد المكبوت، وستعلن إنحيازاً تاماً لرغبة الجماهير، وتوفّر علي نفسها، وعلي هذا الشعب، شلالاتٍ من الدماء سوف لن تتردد حكومة الإنقاذ وماليشياتها في سفكها في الساعات القادمة لا سمح الله، وهي تنازعُ خروج الرمق الآخير في معركة الحياة، أو الموت التي تواجهها !!
إنّ إلتفاتةً واحدةً في ظرفٍ تاريخيٍ دقيق كفيلةٌ أن تحوِّل مجري التاريخ..وهاهي هذه الإلتفاتة الآخيرة تحين، وبسرعة، وللمرة الآخيرة، أمام الرئيس، ثم أمام الفريق حميدتي، وأمام أي قائد قيادةٍ ذي نخوة، إنتسب لهذا الشعب باللحم، والدم، وبالآلام والأحزان، والدموع !!