من المهم جدًا ألا ننظر لسقوط نظام الرئيس عمر البشير في السودان بمعزلٍ عن طروحات الإسلام السياسي، وبناه الفكرية القاعدية. فالبُنى الفكرية القاعدية لتيارات الإسلام السياسي لم تتغير تغيُّرًا جوهريًا عما كانت عليه في الربع الثاني من القرن العشرين؛ أي، منذ ما يقارب الثمانين عاما. وهناك استثناءات بطبيعة الحال، من أمثلتها مراجعات راشد الغنوشي، الأخيرة، في تونس التي نحت إلى فصل السياسي عن الدعوي. أثبتت تجربة الإسلاميين في الحكم في السودان، التي امتدت لثلاثين عامًا، أن فكر الجماعة لم يحدث قطيعةً فارقةً مع خطاب حسن البنا، وسيد قطب، وأبي الأعلى المودودي، وغيرهم من الآباء المؤسسين لهذا التيار. والذي يجعل تجربة الإسلاميين في السودان مدعاةً للبحث الجدَّي المدقق، مقارنةً بغيرها من الحركات الإسلامية، أنها وجدت فرصةً في الحكم لاستمرت امتدت لثلاثين عامًا، أوصلت فيها الدولة السودانية إلى حالةٍ من الفشل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، نادر الشبيه. بل ارتكبت الحركة الإسلامية السودانية في السودان، في فترة حكمها الطويلة هذه، كبيرة الكبائر، وهي تقسيم القطر السوداني إلى قطرين. وما من شك في أن الطبيعة الأممية للحركة، والاستخفاف بالشأن القطري، هو ما سوَّغ لها فقدان الجنوب.
لعب الخطاب الديني الجهادي الملتهب، وإنكار تركيبة القطر الثقافية والاجتماعية، بالغة التنوع، والإصرار على عدم مخاطبة تظلمات أهل الهامش السوداني، إلى انفصال الجنوب. بل أغرى انفصال الجنوب حركاتٍ سودانية مسلَّحةٍ أخرى لكي تسير في نفس الطريق. ولا يعود هذا الفشل الكبير، حصريًا، إلى استبداد الرئيس البشير ورعونته وفساده، وإنما يعود، في الأساس، إلى خيار الانقلاب العسكري على النظام الديمقراطي، الذي اختاره مرشد الحركة الإسلامية السودانية، الدكتور حسن الترابي. وهو خيارٌ يعود، لدى التحليل النهائي، إلى أساسيات فكر الجماعة، وطبيعته الفوقية، الاستبدادية.
رغم أن تجربة حكم الإسلاميين في مصر، بحكم قصرها، لا تصلح دليلاً لإثبات فشل الإسلاميين في إدارة الدولة، إلا أنها ليس لديها ما يعصمها، من حيث الأساس المفهومي، من أن تسير في نفس الوجهة التي سارت فيها تجربة رصفائهم في السودان، إن قُدِّر لهم أن يستمروا في الحكم طويلا. فبالإضافة لاشتراك الحركتين في الجذر المفهومي المؤسِّس، فإن الحركة الإسلامية السودانية، بخاصة، ذات جذرٍ مصري، بحكم ارتباط البلدين. وقد تلقي كثيرٌ من السودانيين تعليمهم في مصر، خاصة الرعيل الذي تعلَّم هناك قُبيْل منتصف القرن العشرين. الشاهد، أن الفكر الإخواني لم يُحدث مراجعاتٍ جوهرية في مصر، كما في السودان. ويعود أصل العلة، في تقديري، إلى الاستمرار في استبطان نظرية “الحاكمية لله”، التي بها يتقمص الإسلاميون الذين ينشدون إنشاء “دولةٍ إسلامية”، سلطة المقدس المطلقة، بناءً على تفسيرٍ للنص المقدس يخصهم هم، وحدهم، يجري فرضه قهريًا على الجميع.
إن الفارق بين نظام الحكم الديمقراطي، وبين نظام الحكم الفاشي السلطوي، يعود إلى الارتكاز إلى واحدٍ من مفهومين للسلطة. الأول: أن السلطة هي للشعب، أولاً وأخيرًا، يتداولها سلميًا عن طريق صندوق الاقتراع، ويسير بها، عبر الزمن، في الوجهة التي ترتضيها أغلبيته. ويرتكز هذا المفهوم، أيضًا، على نسبية المعرفة، ونسبية القيم، وعلى مفهوم أن القوانين تتطور، وتخضع باستمرار لمراجعاتٍ متتاليةٍ، تجعلها أكثر تحقيقًا للحرية وللمساواة وللعدالة الاجتماعية. أما المفهوم الثاني فهو: السلطة هي سلطة الغيب؛ أو قل هي سلطة المقدس. وهي بهذا الوصف تنبع من خارج الوعي البشري، ومن خارج تراكمات التجربة البشرية. وينبني على ذلك، أن التشريعات السماوية عابرة للأزمنة، ولا تخضع للفكر، أو للبنية التاريخية للمكان والزمان المُعيَّن، أو السياق الحضاري. هذا المفهوم الذي يقصي دور العقل، والتجربة البشرية، هو ما تستبطنه تيارات الإسلام السياسي، وإن اضطرت أحيانًا إلى إظهار غيره.
لقد كان ما سمي بـ “قانون النظام العام ” واحدًا من أكبر أخطاء الحركة الإسلامية السودانية في التعاطي مع المجتمع السوداني المتنوعٍّ، بالغ الحيوية، النزَّاع، بحكم تكوينه التاريخي، للحرية. لقد حاول إسلاميو السودان، على مدى الثلاثين سنة التي مارسوا فيها الحكم، فرض منظومة قيمية اجتماعية مستوردةٍ من سياقات أخرى. فقاموا بفرض مقاييس متزمتة لزي المرأة، ومنحوا صلاحياتٍ فضفاضةٍ لشرطة النظام العام، ما عرض النساء لمضايقاتٍ كثيرة في الشارع العام، وفي مختلف المرافق. وبما أن كثيرًا ممن أُسند لهم تطبيق هذا القانون غير مقيدين بأطرٍ قانونيةٍ محددةٍ، فقد تعرضت النساء السودانيات للابتزاز المالي، والأخلاقي. كما أن عقوبة المخالفات في هذا القانون كانت عقوبة مهينة، إذ جرى جلد النساء علنًا بتهمة خرق قانون النظام. ومما وسع الخرق بين السلطة والوجدان الجمعي السوداني، أن العنف بالمرأة أمرٌ مستشنعٌ جدًا في أكثرية الثقافات السودانية؛ إذ يُعدُّ حِطَّةً وقلةَ مروءة. مارست شرطة النظام العام، نفس ما كانت تمارسه جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر السلفية السعودية، وهذا هو ما يفسر هذه المشاركة اللافتة للنساء في هذه الثورة.
إن أكبر علل المفاهيم التي كانت، ولا تزال، تؤطر مسلك الإسلاميين في السودان، في التعاطي مع قضايا الحكم، مما أثبتته عمليًا تجربتهم، هي أنهم حوّلوا وظيفة الدولة، التي ينبغي أن تنحصر في إدارة شؤون الناس السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لتنحصر، إلى حد كبيرٍ جدًا، في فرض مفهومٍ متزمت للأخلاق مفروضٍ بالسيف والسوط. لقد مارسوا مراقبة مسلك الأفراد، واقتحام خلواتهم، بحجة ما أسموه “تزكية المجتمع”، أكثر مما انشغلوا بترقية الحياة السودانية. هذا في حين أن التصوف مسيطرٌ في السودان، ويتسم السودانيون عمومًا بمحافظةٍ معتدلة. أما الإعلام الذي ينبغي أن يعمل على ترقية المجتمع ودفع جهود التنمية فقد حوَّلوه إلى منابر للوعظ الديني. انصرف إسلاميو السودان عن تأدية وظائف الدولة الأساسية، إلى فرض نمطهم السلوكي على الجميع، فكانت النتيجة فشلاً على كل الأصعدة. وانتهت التجربة إلى حكمٍ مطلقٍ لفرد، وإلى نهبٍ نهمٍ للموارد حوَّل السودان إلى دولة كليبتوقراطية، يمكن أن يُضرب بها المثل. فبما أسموه “الاستعلاء بالإيمان”، وما أسموه، “التمكين”، حوَّلوا الدولة من دولة للشعب السوداني، لتصبح دولةً مملوكةً، حصريًا، لتنظيم الإسلاميين. وقد مثَّل ذلك واحدًا من أكبرِ أمثلةِ اختطافِ الدولة، بواسطة جماعةٍ محدودةِ العدد، كثيرة العدة والثروة، فأصبحت هناك دولتان: دولة للحكام، ومؤيديهم، وهي دولةٌ فاحشة الغني، تعيش في كرةٍ بلورية معزولة عن محيطها، ودولةٌ أخرى للشعب، بالغة الفقر، قليلة الحيلة.
لقد أثبتت تجربة الإسلام السياسي في السودان، أن مفهومي “الاستعلاء بالإيمان: و”التمكين” يقودان لصورٍ من الاستبداد، واعتمادٍ على القبضة الأمنية والبطش، توشك أن تلحق بالفاشية. وقد وضح ذلك في ممارسة القتل الجماعي في الجنوب ودارفور ومنطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق. إلا الحراك السلمي الضخم الأخير، الذي لفت نظر العالم، إضافة إلى الانتشار الواسع للهواتف الذكية، أوضح ما لم يكن واضحًا بما يكفي، من الطبيعية القمعية الحقيقية لنظام الإسلاميين في السودان. لقد أظهرت وسائط التواصل الاجتماعي، رغم محاولة الحكومة السيطرة عليها، فظاعة ووحشية جهاز أمن الإسلاميين في السودان. فقد رأى العالم المسلحين الملثمين الذي يستغلون سياراتٍ بلا لوحاتٍ، يمارسون، بلا تردد، إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين السلميين في الشوارع. ورآهم، أيضًا، وهم يُلهبون ظهور المتظاهرين بالسياط، بصورة تبلغٍ درجة الحقد والتشفي. بل رأوهم يقتحمون المنازل وينكلون بساكنيها، ولا يفرقون في هذا بين رجلٍ وامرأة.
ما من شك أن للتيار الإسلامي جمهورٌ كبير في الدول الإسلامية؛ العربية منها وغير العربية. وهذا طبيعي في الأوضاع التي تعيشها هذه المجتمعات التي لم تثب أقدامها، بعد، في أرض الحداثة بالقدر الكافي. ما عكسته التجربة السودانية أن التيارات الإسلامية لها قدرة على الحشد والتعبئة الدينية العاطفية باسم الدين، ومن ثم الوصول إلى كرسي السلطة، ولكن ليس لها قدرة على ممارسة الحكم الرشيد. ويعود ذلك، في تقديري، إلى العلة المفهومية الجوهرية، التي سبق أن أشرت إليها، وهي مفهوم “الحاكمية”. لقد أعادت تجربة الإسلاميين في السودان، الأوضاع إلى في السودان، إلى حالةٍ أسوأ من سابقتها، إضافةً إلى التسبب في تقسيم السودان إلى قطرين. وعليه ربما أمكن القول إن التيارات الإسلامية، تيارات شعبوية، وإن خطرها على فرص التنوير وكفالة الحريات، والانفتاح العقلي والتحديث، كبيرٌ للغاية، إن هي استمرت على حالها هذا. وبما أن التيارات الإسلامية لها وجود مقدَّر وسط الجماهير، فإن من خطل الرأي محاولة استئصالها، أو إقصائها. لكن، لكي يكون لها مستقبل سياسي، على نخب الحركات الإسلامية، والدول الداعم لها، إجراء مراجعاتٍ جدِّية لبناها المفهومية القاعدية.