(طالما هناك محاولات تصويب في المرمي بالضرورة سياتي هدف ) قالها ساخراً الأب الروحي الكروي شاخور، عندما استفتاه تجار زريبة العيش حول كثافة الانقلابات العسكرية المناهضة لنميري. والتاريخ لا تكرر وقائعه إلا في بلاد العجائب التي تسمي السودان، فها هو المجلس العسكري الحاكم يعلن احباط محاولة الانقلاب السادسة في غضون أربعين يوما ، ونترقب حسب حظنا في الاستقرار متي دخول الهدف في المرمي الخالي؟
الانقلاب العسكري تخلقه البيئة السياسية للبلد، عدم الرضا والاحتقان السياسي علاوة على عجز النظام القائم عن تصريف الامور. وتنظيم فعال داخل المؤسسة العسكرية يجد الدعم من أحد مكونات الحركة السياسية، وبهذه المعطيات نجد ان بلادنا بيئة مثالية لانقلاب عسكر ، تتوافر فيها المطلوبات التي تبرر الانقلاب، من احتقان سياسي وعدم وجود سلطة تنفيذية من الثورة، اضافة لتفتت النسيج السياسي بين المجلس العسكري من جهة والقوى السياسية التي تتباين مواقفها حول الخطوات القادمة، بالاضافة الي تمايز واضح بين المكون العسكري للمجلس الذي هو تحالف غير موضوعي بين مليشيات الجنجويد والجيش الرسمي، اضافة الي الأزمة الاقتصادية الخانقة التي ليس لها أفق للحل.
وطالما ان البيئة خصبة لانقلاب عسكري لا بد ان يكون هناك مدبرون ومنفذيو للانقلاب حيث تلعب المصلحة من الانقلاب دورا حاسما في التحرك، اضافة الي العامل الآخر هو الوجود المعقول للعناصر الانقلابية داخل المؤسسات العسكرية والأمنية، بالتزامن مع مساندة شعبية محدودة تؤيد الانقلاب. يناسب هذا التنميط في حجمه ولونه ( قميص عامر) الحركه الإسلامية او الثورة المضادة او الفلول فكلها اسماء تعطي مدلولاً واحداً هو (الاخوان المسلمون).
ظلت فلول النظام منذ سقوط البشير تحاول السيطرة المطلقة علي المؤسسات العسكرية وعملوا علي تفوقهم في هذا المضمار، وظلوا يعملون بكل خبث ودهاء لقطع التقارب بين المجلس العسكري وقوي الثورة،( لامر جدع قصير انفه) قادت الثورة المضادة حملات ضخمة انتهت بقتل المعتصمين في خواتيم رمضان، واشتركوا في التحريض والتدبير والتنفيذ، مارسوا (رمتني بدائها وانسلت) مع مليشيات (الجنجويد )التي نفذت الجزء القذر في مذبحة فض الاعتصام، التي اضعفت وهزت وضعية المجرم حميدتي، محليا زاد كرهه واصبح منبوذا، وخارجيا صنف مجرما وجبت محاسبته، وتم حرق مستقبله تماما، ولا امل له في العودة ليكون خيارا فاعلا .
تعود تفاصيل علاقة الحركة الإسلامية بقائد مليشيات الجنجويد بعد ما آل اليه امر البلاد. تقييم تنظيم الاخوان المسلمين (للجنجويد) وقائدهم حميدتي بنوا علاقاتهم معه علي افتراضين الاول انه يقود قوات غير منضبطة وعديمة الخبرة في التقاليد العسكرية، وذلك يمكنهم من حشر كل عناصرهم المسلحة في تلك المليشيات وتخزينهم هناك، ومن ثم استخدامهم للأعمال القذرة وترمي المسؤولية القانونية والأخلاقية بعيدا عن محيطهم، والافتراض الثاني ضعف تجربة حميدتي السياسية والتأمرية مما يجعله حليفا مرحليا يسهل التخلص منه مستقبلا، وقد نفذ هذا فعليا ( بشيطنته) وجعله انسان منبوذ محليا ودوليا وقد افلحوا في ذلك بمساعدة فظاعة واجرام حميدتي.
لكن ما غاب عليهم ان حميدتي بعد سقوط البشير لم يعد هو (الجنجويدي ) محدود الطموح والأفكار زعيم لمليشيا قبلية تقتل بأمر وتعليمات الحكومة، اصبح قوه اقتصادية عسكرية ضاربة لها علاقاتها الدولية القائمة علي مصالح، توظف له هذه الدول الدعم المالي واللوجستي والاستشارات الاستخبارتيه التي تضمن تفوقه بالاضافة الي تعينه لمستشارين محليين لحل الاشكالات.
وعندما قابل حميدتي (علي كرتي) كان يدري ما الذي سيجنيه من هذا اللقاء، يعلم سقف طموحه والطريق لتحقيقه، وعلي علم ببواطن قوته وقوة الاطراف الاخري الظاهر منها والمستتر، وكلاها (كرتي وحميدتي ) يخفي المدية الراعفة للاخر وسط معسول الكلام، تفاصيل اللقاء طلب حميدتي سرية هذا اللقاء الذي تم بأحد احياء الخرطوم جوار سكن حميدتي، واتفقا علي ان يستخدم حميدتي كافة تشكيلات الحركة الإسلامية الجماهير وان يدعموه لفك حصار الثوار الخانق عليه، علي يضمن حميدتي سلامتهم واستمرار الوضع كما هو عليه من امتيازات ووظائف لمنسوبي الدولة العميقة، حتي يتسني له إشراكهم في القسمة التي تجري بين الحركة السياسية والعسكر.
الا ان طموح الرجل الذي ظن امر البلاد دان له، قاده الي فهم اتفاقه مع الاسلاميين تحالفاً مع افراد دون الالتزام بحركة سياسيه لها توجهاتها وآلياتها ورأيها وأتي اوان وراثة ما بناه البشير، من حزب سياسي (الموتمر الوطني) يتحول لحزب خاص به بمسمي جديد، يحكم به بغطاء سياسي دون عناء. هنا يتجلي خبث ومكر حميدتي الذي يتنصل من اَي اتفاق او شرف كلمة لاعتلاء الكرسي المسموم، فقد كان قبيل لقاء كرتي في اتفاق مع قوي الحرية والتغيير ، تنكر لذلك الاتفاق فور لقاء علي كرتي والاتفاق معه .
جذور الخلاف بين حميدتي والإخوان كانت حاضرة في ذلك الاتفاق، والمدية الراعفة لم تفارق الأيدي الآثمة ، ووجود الحركة الإسلامية في المؤسسة العسكزية فاعل، واختراق للجنجويد حقيقة واقعة فما الذي يمنع الانقلاب لوضع حد لطموح حميدتي خاصة ان الظرف العام مهيأ لانقلاب ناجح، الا ان الحلقة الضعيفة في التدبير التداخل المخل بين الأجهزة الامنيه والاستخباراتية وكوادر الحركة الإسلامية يمنع عدم تسرب الاسرار بينهما، ان أخذنا في الاعتبار قاعدة (الجاسوس تجذبه السلطة والمال كجذب القامة للذباب) وهنا تم كشف التدبير .
تلقت الحركة الإسلامية صفعة موجعة جراء فشل المحاولة، و تم القبض علي(علي كرتي وكمال عبد اللطيف) وهولاء القادة الفعليين لتشكيلات الاسلاميين العسكرية علي كرتي مؤسس ومسؤول الدفاع الشعبي والشرطة الشعبية وكمال عبد اللطيف مسؤول الامن الشعبي بالاضافة لمئات الكوادر الحركية التي سيشل قبضهم تنظيمات الحركة الإسلامية.
بانتهاء شهر العسل بين الحركة الإسلامية (والجنجويد ) لَم تزل بينهما معارك مؤجلة، ستكون موغلة في الدموية . سيتخذ حميدتي هذه الظروف ليحكم قبضته بصورة مطلقة علي ما كانت تسمي بالقوات المسلحة، وسيعمل علي تصفيتها وإحلال قواته مكانها (خطة اماراتية معدة سلفا ترفضها مصر)، ليتحول بعد فترة وجيزة جيشنا الي جيش مختلف نوعيا عن الجيش الذي نعرفه، واذا سارت الامور كما يخطط لها حميدتي حتما سينقض علي الحركة السياسية، ويعلن نفسه رئيسا لبلاد مدي الحياة. وفِي الختام ايها القاري أرجو ان تبارح هذه المساحة الا تقول لعنة الله والنَّاس والملائكة اجمعين علي الكيزان .