٢٣أغسطس ١٩٨٩ -٢٣ أغسطس ٢٠١٩م ثلاثون عاماً من غياب السمندل الجميل
… أكثر ما يؤلمني ..ذكرى الوداع المقتضب فى تلك العصرية المشؤومة فى مستشفي سوبا. كنّا قد جئنا “راجلين” مع خالاتي . بضع كيلومترات (كدّارى جد)، للّحاق بمواعيد الزيارة فى المستشفي، بعد ان أغلق العسكر اللئيم الشارع الرئيس، واجبروا العربات علي الوقوف بعيداً.
فقد كان اغسطس ١٩٨٩م بداية الوجه الكالح الأسود للانقلاب الاسلاموعسكرى للبشير وزمرته البائدة. وصلنا الي المستشفي لنجد أبي فى بشاشته المعتادة …وعدد كثيف من الزوّار الأهل والأصدقاء وطلابه والعاشقين لشعره من المريدين لشيخهم عبد الحى يحيطون به ويملؤون ردهات المستشفي العتيق.
دخلت عليه وأدركت انه يزداد هزالاً مع كل هجمة جديدة للحمّى اللعينة. أنكرت (أو قل تجاهلت ) -بعقلي الطفولى الذى يختار الفرح -اشتداد المرض . واخترت (بوعي)ان أعيش فى حلمي الذهبي باقتراب موسم الانتصار علي الألم مع تباشير الخريف وبعودتنا الي حديقة أبي الغنّاء. انتهت الزيارة. شدّ أبى علي يدي الصغيرة. .(لمَ لم احتضنه أو أقبّله؟! ) ودّعته بوعودٍ جازمة بأنني سآتي فى زيارة اليوم المقبل. وذهبت!!!. ذهبتُ دون أن أجرّ معي شبح الموت الذى خيّم بفرح علي غرفته المكتظه بالأحبّاء. ذهبتُ اتقافز دون وعي أمام خالتي عادلة التي حملت ريل بصبر وصمت …وإدراك!!. كنت (وما زلت ) تلك الفتاة المعجبة بأبيها. فأنكرت أن الموت والحياة متلازمتان كالأخوة الأعداء..هما ليسا بضدّين بل مكمّلان بعضهما البعض….ففى موت البعض استكمال لرحلة الحياة، وفى حياة البعض الآخر موتٌ أكيد!!!(هكذا علّمونا الشهداء). …. (كيف لنا أن نتقن فنّ الموت كالشجر الأمازوني الشامخ. ونتقن فنّ الحياة بصمود الجبال ولطف الفراش؟ وكيف لنا أن نتعلّم النهوض كالسمندل من رماد الانهزام؟) امي كانت علي غير عادتها …..هادئة وحزينة بدون ضحكتها المجلجلة المعدية. …(فربّما رأت فى تلك العصرية رفيق دربها فى تلويحته الأخيرة ؟)…!! ذهب جسده وبقيت روحه ترفرف فوق الأرصفة التي أحبها، وترقص مع طبول العودة إلي الأرض التي تحتضن هويته الفريدة. تحلم بتحرر العقل من قيود الانتماء الأحادي، وتبشّر بالألوان، وتعدد موسيقي الثقافات السودانيه المتداخلة. عاش بهاجس التفاوت الطبقي البغيض فكتب …..فى “حديقة الورد الأخيرة ” أنشودة/قصيدة عائلة الشحّاذين..
رأيتهم :أما،أبا،أطفالا على رصيف الزمن المهجور يرتدون شمس الكلمات الزرق والاسمالا فواحد في رغبة يسأل عن مغارة وواحد في غربة يسال عن إشارة ويسأل الأطفال عن خبز فيطعمون الحجارة.
اليوم….كبر يا أبي هؤلاء الأطفال الذين اطعمهم القهر الحجارة….وصنعو لنا بدمائهم -فى عيدك الثلاثين – ثورةً من الشعر والموسيقي والجمال والأمنيات بوطن يسع أحلامك وأحلامهم ……وطن الطبول والخيول والحرحر والأجراس….. …. أنت بيننا تمشي بألوانك الزاهيه الخالده يا سمندلنا الجميل!
** التحرير:
ولد محمد عبد
الحي في الخرطوم بالسودان في 11 أبريل / نيسان 1944م، من اسرة كانت تهتم بالتعليم.
فخاله سعد الدين فوزي كان أول عميد لكلية الاقتصاد بجامعة الخرطوم حين سودنتها في
عام 1955م، وجده لأمه إسماعيل كان يكتب الشعر. وكان والده عبد الحي يعمل مهندساً
في مصلحة المساحة كثير التنقل في مختلف أقاليم السودان مصطحبا معه عائلته بما فيها
الصبي محمد الذي ترعرع في هذه البيئات المختلفة مما انعكس لاحقا في أشعاره.
ووالدته هي السيدة عزيزة إسماعيل فوزي التي قالت عن نشأة أبنها «لقد كان ابني منذ
نعومة أظفاره مولعاً بقراءة مجلة الصبيان ومجلات الأطفال الأخرى التي ترد من
الخارج … وكان يكتب في الصحف الحائطية … وحينما صار صبياً كان يكتب بعض
الأبيات الشعرية المتفرقة عن الحياة والطبيعة إلى أن عرف والده بذلك ونهاه عن
كتابة الشعر حتى لا تؤثر على مستواه الدراسي لكن محمد كان يخفي كتب الشعر وسط كتبه
المدرسية». وذكر والده «أنه سمح له بالكتابة بعد أن زارهم جمال محمد أحمد صديق
الأسرة الذي كان يعمل سفيراً للسودان لدى لبنان، وأخبرهم أن عدداً من المثقفين
اللبنانيين يسألون عن محمد عبد الحي وأن كتاباته تثير ضجة في الأوساط الأدبية
هناك». تزوج محمد عبدالحي من عائشة موسى وله منها أربعة أبناء.
تخرجه في شعبة
اللغة الإنجليزية بآداب الخرطوم بمرتبة الشرف في عام 1967م. ثم سافر إلى انجلترا
في بعثة للدراسات العليا بجامعة ليدز حيث أعد رسالة الماجستير عن الشاعر
الأسكتلندي أدوين مويير بعنوان «الملاك والفتاة: الضرورة والحرية عند أدوين
مويير»، وفي عام 1972م نال درجة الدكتوراه من جامعة أكسفورد في أطروحة بعنوان
«التفكير والتأثير الإنجليزي والأمريكي على الشعر العربي الرومانسي». وقامت
بترجمته إلى العربية لاحقاً في عام 1982م أرملته الدكتورة عائشة موسى السعيد بناء
على وصية منه.
نُشرت قصيدته
«العودة إلى سنار» التي أثارت ضجة كبيرة في صحيفة الرأي العام السودانية ثم نشرت
في مجلة الشعر المصرية ومجلة شعر اللبنانية لتشتهر في الوطن العربي. وتعتبر
القصيدة من الأعمال الأولية لتيار مدرسة الغابة والصحراء وقد كتبها وهو في الثامن
عشرة من عمره تقريباً. كما كتب محمد عبد
الحي عدداً أخر من المجموعات الشعرية من بينها «حديقة الورد الأخيرة». وأصدر
العديد من الكتب والدراسات باللغة الإنجليزية واللغة العربية مثل كتاب «الرؤيا
والكلمات» حول شعر التجاني يوسف بشير ودراسة عن السياسات الثقافية في السودان نشرتها
منظمة اليونيسكو.