عدنا قبل دقائق من مقبرة المعلاة في مكة، حيث وارينا جثمان يوسف أحمد مكي في القبر رقم (301).
ويوسف أحمد عبد الله مكي، يستحق إلى جانب اسم جده مكي لقب (مكي)، فقد زادت سنوات إقامته في مكة على نصف قرن من الزمان.
كان يروق لي أن أزوره في منزله بحي (ملقية)، لأنعم بالصحبة وأتزود من حكاياته وقصصه.
كان في أوائل السودانيين الذين وفدوا للعمل في الحقل الطبي، ضمن عدد قليل من المساعدين الطبيين عندما استغنت السعودية من الكوادر المصرية بسبب تردي العلاقات بين البلدين.
لم يكن الأطباء السودانيين في ذلك الوقت يسافرون للعمل بالسعودية.
يقول العم يوسف: وصلنا إلى الرياض في نهايات الخمسينيات الميلادية. أرسلوني إلى حائل، فلجأت إلى رئيس الجالية السودانية عثمان إدريس لأتسلف منه أجرة السفر، مبلغ (10 ريالات).
عم يوسف له طريقة في السرد عجيبة، ينقلك بين قفشة وأخرى من قفشاته التي تحمل دلالات عميقة.
يقول: أول ما دخلنا إلى الشؤون الصحية في الرياض، أقبل علينا شخص يحمل براد شاي وأكوابا صغيرة، وجعل يصب لنا…
يمكن شربنا خمس كبايات، والرجل (يسكت يكب)، فسألته: انت الشاي ده على حساب منو؟
لم ينتبه عم يوسف ومن معه إلى أن صب الشاي والقهوة لا يتوقف إلا بحركة من الشارب بهز الفنجان! هذه هي عادة الناس هنا.
يقول عم يوسف: بعد وقت قصير من تسلم عملي، أرسلت لوالدي ستين جنيها. لما وصلت الحوالة البريدية إلى الوالد وجد المبلغ كبيرا جدا فاحتفظ بالمبلغ دون أن تمتد يده إليه. وكان يحتفظ بكل ما يرسل ظنا منه أن هذا المال الكثير ربما كان غير حلال، فكيف بهذا الولد أن يحصل على كل هذا؟!
سبب انتقال يوسف من حائل إلى منطقة مكة هو أنه استقبل مريضا في حالة حرجة، وكان الطبيب الوحيد غائبا، فاضطر إلى إجراء عملية جراحية وهو المساعد الطبي، فأنقذ المريض من موت محقق. غير أنه خضع لمجلس محاسبة قرر نقله إلى الكرنتينا في جدة. كان مكان الحجر الصحي في ذلك الوقت خاليا من السكان ومن المباني.
ولم يطل المقام به هناك فاستدعي للعمل بمكة المكرمة التي بقي فيها منذ ذلك الزمان.
أما أحسن حكايات عم يوسف فهي قصة توسطه لدى السلطات الصحية في السودان لعلاج مريض سعودي يعاني الفشل الكلوي.
المريض من أهل مكة اسمه عبد العزيز الخطابي، أجريت له أول عملية نقل كلى في الدول العربية عام 1974م. أجرى العملية البروفيسور عمر بليل بمستشفى الخرطوم.
المريض زاره السفير السعودي وأراد أن يتكفل بمنصرفات العلاج، فرد عليه: لم أصرف شيئا لأن أهل يوسف في حي بري؛ أخوه محمود وأشقاؤه استضافوني في منزلهم، ولم تكلف العملية قرشا واحدا.
رحم الله العم يوسف مكي، وغفر له. صار في أكرم جوار على بعد أمتار من قبر أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها.