أصبح موضوع معالجة استخراج الذهب باستعمال نسب عالية من الزئبق والسيانيد في التعدين الأهلي يشكل هاجساً للمواطنين؛ لخطورة هذه الاستعمالات على الإنسان والبيئة والحيوان؛ لذا فقد حرص المواطنون في المنطقة النوبية في شمال السودان، وكذلك في مناطق التعدين الأخرى في ولاية نهر النيل وجبال النوبة ومناطق أخرى في كردفان على مواجهة الخطر المقبل، مطالبين الحكومة بمنع قيام مصانع السيانيد في المناطق المأهولة؛ درءاً للمخاطر.
كما عودتنا، فإن للحكومة حساباتها الخاصة في ذلك، لملكية المصانع لبعض النافذين، إضافة إلى حرصها على استخراج أكبر كمية من إنتاج الذهب بأقل تكلفة، وللأسف، فإن الجزء الأكبر من الكميات المنتجة يتم تهريبه بواسطة أصحاب المصالح الخاصة، ولا يدخل إلا القليل من عائداته فى خزائن الدولة.
فى الوقت الذي ينتظر فيه المتضررون من قيام المصانع من الحكومة حل المشكلة، خرج علينا وزير البيئة والتنمية العمرانية د. حسن هلال فى حديثه بالخيمة الرمضانية للصحفيين بالخرطوم بتاريخ 11 يونيو 2017م المنشور بهذه الصحيفة، معترفاً بعدم التزام المعدنين بالمواصفات الدولية لاستخدام الزئبق والسيانيد، بغرض الحصول على أعلى نسبة من إنتاجبة الذهب بأقل تكلفة، مشيراً إلى أن الجرعة المسموح بها دولياً هي نسبة 3%، بينما تراوح نسبة استخدام المعدنين من 15% إلى 50%، مضيفاً أن المعالجة يجب أن تتم على بعد 7 إلى 10 كيلومترات من المناطق المأهولة، وهو أمر لا يتم الالتزام به أيضاً.
وأشار الوزير إلى أنهم يعملون على التخلص الآمن من هذه الممارسات في العامين المقبلين، وعلى أمل التخلص الكامل فى العام 2020م حسبما نصت عليه اتفاقية ميناماتا.
الوزيررغم ما أدلى به من اعترافات، تهرب من مسؤوليته وهو يذكر أن دور وزارته إرشادية ورقابية، وليست لها قوة عسكرية لمعالجة الأمر، ومضيفاً أن الحكومة وحدها لا تستطيع أن تحد من هذه الظاهرة، وأن العمل يجب أن يكون تكاملياً.
وزراء هذه الحكومة الذين تكالبوا على المناصب بالوساطة والمحاصصة وأسس التمكين ليس بمستغرب عنهم غسل أيديهم من مسؤولياتهم الدستورية والقانونية والأخلاقية.
قبل أيام قلائل، سمعنا وزير الصحة أبو قردة، وهو يعلن على الملأ عدم مسؤوليته عن مرض الكوليرا، التى أسموها الإسهالات المائية، وهو يقول: (دي ما شغلتي)، أما وزير الصحة بولاية الخرطوم د.حميدة فقد تنصل عن مسؤوليته بأسلوب مختلف، وهو يغلق أبواب مشافيه أمام المرضى، مخالفاً بذلك أخلاقيات مهنة الطب وقوانينه المحلية والدولية. ويأتي هروب وزير البيئة من مسؤولياتة فى حماية البيئة وأرواح البشر والحيوانات ضمن سلسلة هروب المسؤولين، ونفض أيديهم من أي تقصير.
خطورة الزئبق والسيانيد لم تعدّ خافية، وأصبحت مسألة استعمالاتهما مجال اهتمام إقليمي ودولي؛ نتيجة لانتقال هذه المواد بسرعة كبيرة، وبعيد المدى، في الجو، إضافة إلى ثباتها في البيئة وقدرتها على التراكم في الطبيعة؛ لتصبح مصدر خطر كبير، وهو الأمر الذي جعل مجلس إدارة برنامج الأمم المتحدة تطالب باتخاذ إجراءات دولية لإدارة الزئبق، لما تشكله من أخطار تهدد صحة الإنسان والبيئة خصوصاً في البلدان النامية، وما قد تتعرض له الفئات السكانية الضعيفة خصوصاً الأطفال والنساء وامتداد أثر ذلك إلى الأجيال المقبلة، ومن ثم عملت من أجل حل هذه المعضلة، وتم تتويج جهودها بإصدار صك عالمي ملزم قانوناً بصدور اتفاقية ميناماتا بشأن الزئبق عن الأمم المتحدة، وقعت عليها في أكتوبر 2013م أكثر من 140 دولة.
وميناماتا هي المدينة اليابانية التي توفي فيها أكثر من 10 آلاف شخص، نتيجة لانبعاث مواد كيميائية تحتوي على نسب من الزئبق فوق المسموح بها.
اتفاقية ميناماتا نصت على تدابير وإجراءات واجبة الاتباع في تعدين وتصنيع الذهب الحرفي المعروف في السودان بالتعدين الأهلي، بما يخفف من نطاق استخداماتها بإلزام الأعضاء الذين تمارس في أراضيهم هذا النوع من التعدين اتخاذ خطوات للحد من انبعاث وانتشار الزئبق، ومركباته، والتخلص منه ما أمكن، مع وضع وتنفيذ خطة عمل وطنية وإستراتيجيات تمنع استعمال الزئبق ومركباته في تعدين وتصنيع الذهب الحرفي. كما نص الاتفاق على بناء مبادرات التثقيف، والتوعية، وبناء القدرات، وتشجيع البحوث، وتقديم المساعدات الفنية، والتقنية، والمالية، وتشجيع أفضل الممارسات البيئية، والتكنولوجيا البديلة؛ بما يتوافق ومتطلبات البيئية الاجتماعية والاقتصادية.
وبموجب الاتفاقية، فإن على الدول الاهتمام بالجوانب الصحية بتعزيز خدمات الرعاية الصحية الملائمة؛ لحماية المجموعات السكانية المعرضة للخطر، من خلال التثقيف بمشاركة قطاع الصحة والقطاعات الأخرى، مع اعتماد برامج وقائية مبنية على حقائق علمية، مع تعزيز القدرات المؤسسية والمهنية للجهات الصحية، ورصد الإخطار الناتجة عن هذه المواد الخطرة، ومعالجتها، مع تبادل المعلومات مع منظمة الصحة العالمية وغيرها من المنظمات ذات الصلة.
كما أكدت الاتفاقية على إشراك المجتمع، وأصحاب المصلحة في العمل، وخلق شراكة وتعاون للوصول إلى النتائج المرجوة التي تنهي خطورة استعمال هذه المواد.
واستناداً إلى نصوص الاتفاقية وقوانين الصحة العالمية والمسؤوليات المناطة بها إلى الحكومات ووزارتها المخنصة، فإن ما يحدث في مناطق التعدين الأهلي وما ينتج منه من مخاطر على الإنسان والبيئة والحيوان يشكل جريمة فى حق الإنسانية، وحاضر الوطن، ومستقبله، ومخالفة لاتفاقية صادقت عليها الدولة.
وللأسف، فإن الحكومة بدلاً من أن تتعامل مع المواطنين بوصفهم شركاء وأصحاب مصلحة، للوصول إلى الحلول الموضوعية والمساهمة في تنفيذ اتفاقية ميناماتا التي صادقت عليها؛ فإنها تواجههم بالقمع، وجميع الوسائل الأمنية، كما حدث في مايو الماضي في الوقفة الاحتجاجية لقرى غرب سكوت لمناهضة قيام مصنع هصور في المنطقة، على بعد أقل من 500 متر من المناطق الآهلة بالسكان.