من هو عم بشرى؟
هناك علي ضفة خور اب عنجة من الناحية الشمالية في ركن شارع الموردة مع كبري اب عنجة (الجزء الشرقي من حوش ناس خالد حسن عباس زمان وحاليا وللاسف مطعم سمك) كانت هناك ورشة بسيطة في قلب الحوش شبه مخفية عن الانظار، لا يعرف بوجودها الا من كان له شأن ما مع صاحب الشأن… عم بشرى صاحب الورشة وساكنها المقيم آنذاك ومنذ زمن سابق بعيد. وشأن عم بشرى كان نحت الحجر، يستنطقه استنطاقا وهو صامت. لكن ما شأنك انت يا دكتور مع حجار عاش وعمل ومات علي قيفة خور اب عنجة؟ بل… ما شأني انا؟
الهادي احمد ابراهيم المصور السينمائي المبدع خريج معهد السينما في بوخارست وصلاح حسن احمد الروائي والموسيقي متعدد المواهب وأنا قررنا اثناء جلسة سمر في صيف 1978 لا تخلو من احلام بريئة وخمج نبيل.. قررنا عمل سلسلة افلام وثائقية عن مدينة امدرمان…كيف لا وثلاثتنا من فرسانها ومكسرين فوقا عديل (حرفيا ومجازا) وبعد بحث مضن في الصنايع والحرف الامدرمانية رأينا ان نبدأ بورشة عم بشرى. فهي تقع علي مشارف امدرمان.. هذا طبعا بالنسبة للغريب القادم من الخرطوم وقد تأبط شرا… أما بالنسبة لود امدر (يا اصلى) فالمسألة جد مختلفة. فليس له من طريق غير الطريق الشاقيهو الترام كما “قدل” عليه خليل فرح ابتداء من علايل اب رووف والمزالق ومرورا بفتيح وانتهاء بالخور والمغالق حيث يستوي عم بشرى في ملكوته الصغير عند قيفة المنتهى… اذن ومن منظور امدرماني بحت (ربما يستعصي علي الغرباء) ورشة عم بشرى نهاية الاشياء وليس البداية.. هكذا يعقل الامدرمانيون فالاحوال عندهم كلها تبدأ وتنتهى في مدينتهم ومن ينكر ذلك مذنب الي ان يثبت العكس.
وهكذا بدأنا التصوير في تلك البقعة داخل البقعة.. وعلي مدى ثلاثة اشهر ليل نهار في ضيافة عم بشرى رأينا وسمعنا العجب العجاب… اي مكان هذا واي حلم هذا واي رجل هذا !
كان عم بشرى طويلا عريضا شامخا منتصبا كتمثال جده تهارقا رغم سنينه التي قاربت الثمانين…وجهه به صرامة من غير غضب وصلابة من غير جمود ولم تزل به لمحة وسامة كوشية قديمة وكأنه قد نحته بنفسه من الحجر الذي يتعامل معه.
فقد حاسة السمع ومعظم نعمة البصر… يضرب بمطرقته علي الحجر ويحاور ازميله حواف الصخر لينحت منه حجر طاحونة منقوشا كامل الاستدارة وشاهد قبر كالبلور الصافي وملاكا مجنحا يكاد يحلق.. وعم بشرى صامت لا يسمع كل تلك الاصوات الحبيبة الي نفسه ويكاد لا يرى ما تصنعه انامله. فقط إلهامه الداخلي هو سمعه وبصره وشريان الحياة الذي يربطه بملكوته الصغير.. مثل بتهوفن يصوغ السيمفونية التاسعة وانشودة الفرح (Ode to Joy)
ألحانا سماوية خالدة ويشارك في قيادة الأوركسترا المؤلفة من اكثر من مائة عازف وآلة وهو لا يسمع ألحانه.. لا رنة ولا نغمة ولا إيقاع ولا إنشاد… حتى الجمهور الذي هب واقفا عند انتهاء العزف في تصفيق مدو وهياج غير مسبوق في فيينا لم يسمعه ولم يلتفت اليه، مما اضطر المايسترو ليمسكه ويدور به ليرى بعينيه ما لم تسمعه اذناه، ولله في خلقه شؤون.
ملكوت عم بشرى كان بسيطا جدا.. راكوبه عتق شعبها وقشها الزمن… صبي معلم تحت التمرين من ابناء الدينكا.. صغير يشع من عينيه الذكاء وحب معلمه الذي يعتبره ابنه الذي لم يحظ به من صلبه واسمه ستيف.
وكان لعم بشرى كلب اعرج، هو أيضا معتق مثله سماه معليش لا يقوي حتى علي النباح… ولكن لم ينبح اصلا؟ فهو راقد دوماً علي صخرة منبسطة خُصصت له من زمن ويعلم انه ليس من ثمة مهدد للأمن قد يأتي من الخارج وما يحدث من فوقه علي الشارع لا يعنيه في شيء فالكلاب ايضاً لها حكمة تقول: “شارعن ما ليك فيهو عضمه ما تمشي فيهو”.. وهناك زير بارد نضيف زي الفل ومن تحته بطيخة يجلبها يومياً ستيف من مصروفه الخاص كمساهمته في الميز ولا يحرم معليش من قطعة او قطعتين.. وحنفية مبوشة لا تتوقف عن التنقيط لكنها تضيف الى – ولا تنتقص من – بهاء الملكوت. ثم حجارة وحجارة وصخور وصخور من كل صنف وحجم وشكل تملأ الافاق في فوضي مرتبه ونظام دقيق. وعلي بنبر قديم تآكلت حباله جلس الملك في مركز الملكوت وعن يمينه حجر الطاحونة، وعن شماله شاهد القبر والملاك الحارس و في يده ازميله يتأرجح في الهواء كعصا المايسترو، ومن فوقه علي شارع الموردة تمضي الحياة.. بشر وباعة وسيارات وبصات تروح وتغدو وهو يراها ولا يراها ولا يسمعها ولا تعنيه في شيء… كل الذي كان يهمه من ذلك الصخب الدنيوي أمور ثلاثة لا رابع لها :
الأمر الاول: لوري هوستن سفنجة متهالك ينتظره اول يوم من كل شهر علي سفح جبل شمال امدرمان حيث اقام عم بشرى علي مدي ثلاثة ايام يستخرج الصخر الذي يحتاجه ثم يدحرجه من اعلي الجبل ليرفعه بيديه صخرة صخرة الي صندوق اللوري ومن ثم ينطلق اللوري عائدا وعم بشرى جالس فوق صخوره كقائد فاتح ولسان حاله يقول كما قال جوليوس سيزار:
” I came, I saw, I conquered”
الأمر الثاني: زبائنه وهم ثلاثة: ابونا مكرم قسيس كنيسة الشهيد ماري جرجس لاخذ منحوتات الملائكة المجنحة لقبور اخوتنا المسيحيين، وود رزق الله التربي الذي يأخذ الشواهد لترب حمد النيل، والسر المبروك موزع حجارة الطواحين.
الأمر الثالث: حاجة حرم التي كانت تفرش في سوق الموردة وتعد لعم بشرى طعامه: الفطور مع أول خيوط الشمس عصيدة دخن ولبن وسمنة وعسل وبلحات… الغدا عصيدة وملاح تقلية وسلطة خدرا…لا ياكل غيره،ولا ياكل الا من يدها… لم يعرف الشاورمة ولم يسمع بالباسطرمة. وتقول له حاجة حرم عندما تحضر طعامه “بالهنا يا ود حشاي” وبحساب السنين لا يمكن ان يكون عم بشرى ود حشاها.. لكن في ميزان المحبة هو كذلك… فعم بشرى لم تكن له اسرة ولا صديق ولا حبيب فقط ابنه ستيف.. ومعليش وحلفاؤه الثلاثة.. ورغم ذلك وربما بسبب ذلك اعطى للاحياء حجر الطاحونة ليأكلون منه الطعام واعطى الاموات الشاهد والملاك يرافقهم في رحلتهم النهائية…شيء للاحياء وشيء للاموات.
في احدى المرات حاولنا تحريك صخرة لنضع مكانها الكاميرا.. حاول الهادي اولا ثم انا ثم معا ثم انضم لنا صلاح ولم تتحرك الصخرة سنتي واحد. وستيف يسترق النظر من وراء عامود وعلي وجهه ابتسامة ممطوطة تجاوزت حدود وجهه الصغير وذات دلالة (عاين جنا ارب موية ساي) وهرع الي عم بشرى بالشمار.. جاء عم بشرى، تحسس الصخرة من هنا ومن هناك ورفعها وكأنه يلتقط قصاصة ورق وقال: “عاوزينها وين؟” كدنا ان نموت عارا… كان الرجل يعرف صخوره ويعشقها وربما كان يتحدث معها بلغة الجبال لذلك تستجيب.. سهلة عليه ممتنعة لغيره كحبيبة وفية… ولله في خلقه شؤون.
الفيلم اسمه “دائرة علي حجر”… صوره الهادى ووضع موسيقاه صلاح، وكتبت أنا السيناريو واخرجته. ثم توقفنا عنده.. ربما تمادينا في الاحلام في تلك الامسية اللعوب.
تسالنى: اين الفيلم؟ اقول لك لا علم لى.. ضاع في اضابير وزارة الاعلام ومعه مئات الاشرطة المسموعة والمرئية حينما ضاع السودان سنة 89 داخل كهوف الوطاويط.
“ويح قلبي الما انفك خافق
فارق امدرمان باكي شافق
يا ام قبايل ما فيك منافق”
خليل