لا نعدو الحقيقة، إذا قلنا اليوم إنَّ ما سالَ من حبرٍ حول لقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ورئيس مجلس السيّادة السودانيّ الفريق عبد الفتاح البرهان بمدينة (عنتيبي) الأوغندية الأسبوع الماضي، ما كان له أن يسيلَ على ذلك النحو، لا سيّما في الإعلام العربي، ووسائل التواصل الاجتماعي، إذا ما عَرِفنا أن الرسالة التي أرسلها ذلك اللقاءُ السريُّ إلى الداخل السوداني هي الأولَى بالحديث والتأمل في دلالاتها والمصائر التي يمكن أنْ تؤدي إليها.
غنيٌّ عن القول، إن مسار التطبيع في الواقع السياسي العربي اكتنفه كثيرٌ من التحوّلات والمتغيرات في كثيرٍ من الدُّول العربية، ولا يكاد يُجدي شيئاً اليوم الدفاع عن رؤية طوباوية مُطلقة تغفل هُوية التطوّر الذي بات واضحاً في القرارات الدوليَّة المُتصلة بحقوق الشعب الفلسطيني، وهي قرارات معروفة، إلى جانب اتفاق العرب جميعاً على الحد الأدنى الذي مثّلته المبادرة العربية، التي طرحها الملك عبد الله بن عبد العزيز، رحمه الله، في القمة العربية ببيروت العام 2002.
بعد قيام ثورة الـ 19 من ديسمبر (كانون الأول) 2018، ثمّ إسقاط حُكم البشير في أبريل (نيسان) 2019، والتحوَّلات التي صاحبت مسار الثورة التي أبهرت العالم في سِلميتها وصولاً إلى اتفاق الـ17 من أغسطس (آب) بين العسكر والمدنيين حول الوثيقة الدستورية والإعلان السياسي وقيام الحكومة الانتقالية، بدا واضحاً أن هناك عقبات من بقايا نظام البشير كانت تكبِّل مسار الحكومة الانتقاليَّة.
وأبرز هذه العقبات، وجود اسم السودان في قائمة الدول الراعية الإرهاب في تصنيف الولايات المتحدة، إلى جانب الحصار الاقتصادي، وما أدّي إليه من دمارٍ لبنية اقتصاد الدولة، وكذلك تعطيل وقطع الدورة الاقتصاديَّة السودانيَّة عن الاندماج في دورة الاقتصاد العالمي، إذ يقتضي وجود اسم السودان في قائمة الدول الراعية الإرهاب قطيعةً من جميع المؤسسات الاقتصاديَّة الدوليَّة، مثل صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والمؤسسات الاقتصاديَّة الكبرى لدول العالم.
تعنّت الولايات المتحدة في رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية الإرهاب، حتى بعد أن أسقط الشعب السوداني بثورته رأس النظام السابق، كان مبعث خيبة للسودانيين بعد الثورة، وهو أمرٌ فاقمَ من سوء الأوضاع الاقتصاديَّة التي بلغتها البلاد، لا سيما في ظل نشاط الثورة المضادة.
في دفاع رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان عن لقائه نتنياهو، ذكر أنه أقدم على ذلك من “أجل مصلحة السودان”، لا سيما أن البرهان كان تلقّى دعوةً إلى زيارة الولايات المتحدة خلال مكالمة لوزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، عقب اللقاء.
وكان واضحاً أن هذه الزيارة وما ستثيره من جدلٍ قد تخطئ الأهداف التي توخّاها البرهان، بما يرتد سلباً على مسار المرحلة الانتقالية عبر توتر العلاقة بين مجلس السيادة ومجلس الوزراء، ومن ورائه الحاضنة السياسية للحكومة: تحالف قوى الحرية والتغيير.
وكما توقَّع البعض، فإنَّ ردود فعل اللقاء أحدثت إرباكاً كبيراً في صفوف قوى الحرية والتغيير، كما أحدثت حَرَجاً لها في ظل قوى ثورة مضادة، يمكن أن تستثمر تداعيات هذه الزيارة من أجل تمرير أجندات سياسية.
التزامن الذي بدا في توقيت لقاء (البرهان – نتنياهو)، مع إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب (صفقة القرن) قبل اللقاء بأيامٍ، ربما حفَّز رئيس مجلس السيادة السوداني إلى تقدير موقف ربما يكون مؤثراً حال أقدمَ على ذلك اللقاء بما ينعكس إيجاباً في تليين المُوقف المُتعنت من طرف أميركا حيال رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعيّة الإرهاب.
بطبيعة الحال، كانت خطوة رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان بعقد هذا اللقاء مع نتنياهو، غير دستورية، ولا تندرج في المهام التي أوكلتها إليه الوثيقة الدستورية الحاكمة، ما تسبب في حَرجٍ كبيرٍ لحكومة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، لا سيما في ظل الأقوال المتضاربة بين المجلسين بخصوص من عَلِمَ بالزيارة من أعضاء مجلس الوزراء.
اليوم، وبعد أن وقع المحذور، يجبُ أن تمتص قوى الحرية والتغيير هذه الصدمة، وتسعى إلى إعادة توازنها وترتيب عُرَى الشراكة، وحمايتها من أن تنعكس عليها مفاعيل ذلك اللقاء بصورة مُدمرة.
ما يعني أنه لا بدّ من تقدير طبيعة المرحلة الانتقالية وحساسيتها التي تقتضي تقديم أولويات شديدة الأهمية للحفاظ على مسارها، بين اجتهاد البرهان وتقديره، الذي بدا واضحاً أنه يتصل بضغوط من الولايات المتحدة ذاتها، وضرورة تلافي المفاعيل السلبية للقاء من قِبل قوى الحرية والتغيير، حفاظاً على مسار الشراكة في المرحلة الانتقالية بين المدنيين والعسكريين.
سيكون التفهم المتبادل والقدرة على تحمّل الضغوط هما الأنسب لتفويت تداعيات أكثر خطورة، يمكن أن يؤدي إليها سوء التفاهم بين الطرفين.
بالتأكيد، ستظل تداعيات اللقاء قابلة للتفجير والتفخيخ اللذين تسعى إليهما أطراف كثيرة لا تضمر خيراً للثورة السودانية، مثل قوى الثورة المضادة التي وجدت صيداً ثميناً يمكن استثمارُه لتحريك البسطاء بالعاطفة الدينية.
رأينا طرفاً من ذلك في مَسيرة رددت شعارات منددة بحكومة الثورة يوم الجمعة الماضي، كما أن هناك وسيلة إعلامية شهيرة سيشتعل هديرها في الخارج على مفاعيل تلك الزيارة بهدف تفجير التناقضات بين طرفي الشراكة: (العسكر والمدنيين).
لا يُخفى بطبيعة الحال، أن اللقاء بين نتنياهو والبرهان من ناحية أخرى يُسلّط أضواءً إيجابية على العسكريين في السودان، وربما يحسِّن لهم صورة مختلفة في الدوائر الرسمية بالولايات المتحدة، خلافاً لما كانت عليه صورتهم في مسار علاقتهم مع المدنيين بعد الثورة، بما في ذلك أحداث فضّ اعتصام القيادة العامة، لكن سيكون من المجازفة بمكان إذا تصوَّر العسكر أن ذلك يمكن أن يغريهم بتبييت نيات انفراد مستقبلي بالسلطة بعيداً عن حيثيات اتفاق الـ17 من أغسطس 2019!