فشلت الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال في صناعة بنية تحتية قوية تربط القطاعات المنتجة في مابينها ومع العاصمة والمواني ، كما فشلت في إنجاز مشاريع التعليم والصحة الفعالة والمتوازنة في شتى أصقاع الوطن ، كما فشلت في تدريب وتوظيف الكوادر اللازمة للقيام بهذه المشاريع التي لا سبيل لنهضة دولة بدونها ، وإنصرف جل الميزانيات للحرب والامن والدفاع ، كل هذا فشل ذريع بيد ان أعظم فشل لكل الحكومات الوطنية كان هو تغذية وتنمية شعور وطني ضعيف ومهتز لدى الجماهير بالوطن ، يتطور في كثير من الاوقات الي شعور بال ( لاوطنية ) او بالتمييز او الاستعلاء ضد الاخر الوطني ، هذا الشعور المبهم بالوطن والاحساس المحبط بالوطنية جعل مشاريع التغيير ضعيفة البنية وغير جاذبة عبر مسيرة التاريخ السياسي ، وجعل الوازع الوطني بالاخلاق ومراعاة الضمير غير وارد في كثير من المشتغلين بالسياسة.
لم يكن هذا الفشل نتاج هدف مقصود من الداخل او تخطيط واستهداف خارجي ،وانما يرجع بدرجة اولية إلى غياب الرؤية لدى كثير من الاحزاب والقيادات التي إستغلت السلاح للوصول إلى السلطة بدون مشروع وطني حقيقي ، وكانت الكارثة ان هذه الأنظمة رفعت معها مجموعات وافراد بلا قيمة ولا قدرات فحظوا ( بالفهلوة ) و ( الدغمسة ) على توقير لا يستحقونه ووصلوا إلى مراتب أعلى من مقدراتهم ، وبين ليله وضحاها اصبحوا يتحكمون في مصير الأمة بكاملها فكانت النتيجة هبوط الوطن وانحداره .
هذا الفشل في بناء الدولة العصرية النامية صاحبه تخبط سياسي لازم الحكومات الوطنية في تبني توجهات وطنية وصرفها تارة غربا وتارة شرقا وتارة تغرق في تبنيها للقومية او الشيوعية او الاسلامية ، هذه التوجهات المضطربة والشعارات المتناقضة التي حشدها الاعلام الوطني في أذهان شعب واحد خلال مسيرة تاريخ الدولة الوطنية السودانية التي لم تتجاوز نص قرن الا بالقليل ، فخخت الشعور الجمعي بقناعات ملتبسة وألبست السياسة ثوب من الخداع والانتهازية ، وصار الحاكم مهما بلغ من الحيادية والنزاهة مشكوكا في ذمته إبتداءا وغير مأمون حتى يترجل عن السلطة.
هذا التكوين الخاطئ للشخصية السياسية في ذهن الشعب اوجد فراغ غير محدود بين المواطن العادي والسياسي ، مما دفع كل المواطنين تقريبا في السودان إلى تقمص دور السياسي ، وأصبحت كل التجمعات والجلسات رهينة لحديث الكل بدراية او بغيرها في امور السياسة ، وربما تم نقد او تبرير كل شعارات ومشاريع السلطة القائمة وجرح وتعديل سياستها الداخلية والخارجية والاقتصادية والفكرية في أي مكان في أصقاع الوطن بعد وجبة غداء بالكاد تحصل عليها صانعوها . هذا التسطيح لوظيفة السياسة جعل الكل في الوطن يأنس في نفسه الكفاءة لقيادة الامة ، وجعل الاحزاب السياسية السودانية مليئة بمجموعات من الهتيفة الذين تحولوا بين ليلة وضحاها من أشباه سياسيين إلى قيادات مناط بها التقرير في مصير الامة ، هذا الامر حدث في معظم الحكومات العسكرية التي اتت برؤساء لا يصلحون للقيادة كما جاء بقيادات في العهود الديمقراطية لا تحمل من المعايير سوى إسم الاب أو بطاقة القبيلة ، في ظل هذه الهيمنة المجحفة لم يستطيع الكادر الوطني المؤهل طيلة مراحل الدولة الوطنية- إلا ماندر- ان يحصل على فرصة حقيقية في قيادة الدولة ، وهذا سبب إختلالا فظيعا في ميزان النمو والتطور للدولة ، هذا الامر دفع الكثير من هذه الكوادر إلى الاغتراب او الانزواء او للاسف التملق لقيادات تقل عنها في كل شئ ، وكانت المحصلة كوادر معطلة وقيادات عاجزة ووطن فاشل .
هذه الصورة النمطية للدولة السودانية اذا لم تفلح ثورة ديسمبر في تغييرها فإن الغد ليس مشرقا ولا بهيا بل هو عودة أخرى للدوران في ذات الدائرة الجهنمية ، وستضيع تضحيات الشباب والشهداء عبثا ، وسيكتفي الجميع من الغنيمة بالاياب .
sondy25@gmail.com