أنجبتني للوجود ورعتني حتى شببْتُ عن الطوق أمٌّ واحدة: الحاجة حبسة حسب الله البشاري ، لها واسع الرحمة. ولكنّي عشت شيئاً أشبه بحنان الأمومة مضافاً لحنان أمي من طيفين آخرين. وما آلمني اليوم والعالم يحتفي بعيد الأم أنني – في هذا السن المتقدم – أفتقد حنان ثلاثتهن: أمي والطيفين الآخرين!
ليس غريباً في مجتمع رعوي ذكوري أن تصحو لتجد أنّ في عصمة أبيك الطاعن في السن سيدة أخرى. لكن الأغرب أن تتقبّل الزوجة الأولى – أمّي – الحدث دون ضجيج. كنت في الأولى المتوسطة. أعي بعض الأمور وتفوت عليّ أخر كثيرات. ربما عاش أخواي وأختي الذين يكبرونني الأمر بفهم مختلف. لست أدري.لكني أقسم أنني في حضن الأنصارية العابدة- أمّي حبسة- لم أعش دقيقة في حياتي من التأرجح بين بيتين ! ولم أجدني أبداً موزّع العاطفة بين أمّي وأمنا جدّة – السيدة الجديدة في حياتنا. لكن ، هل يعني ذلك أنّ نقار الضرّات في أدنى الحدود غير موجود ؟ أو أنّ خلافاً لم يطرأ بين أمّي وأبي بسبب الوافدة الجديدة؟ طبعاً توجد تلك الخلافات، مثلما هي في كل بيت تتعدد فيه الزيجات. لكنّي أقسم بكل غالٍ ونفيس بأني لم أشعر ذات يوم بما يشل تفكيري أو يحطم جسر المودّة بيني وبين الوافدة الجديدة- عمتي “جدّة”! وزادت سعادتنا حين أوصى أبي – وهو بعيد في منطقة رمبيك – أن تقوم أمي بكل ما يلزم تجاه استقبال المولود المنتظر من عمتي ضرّتها. والأغرب أنّ هذا التكليف كان موضع الإهتمام الكبير من أمّي.
كنت وقتها أعي بعض الأمور. تحول البيت – بيت عمتي إلى مستشفى ولادة صغير. طلبت أمي من أفضل الدايات في المجلد – فاطنة بت حسين لها الرحمة أن تقوم بواجب التوليد وليس سواها. ثم إنها لزمت الدار إلى جوار ضرتها – تخدمها وترعاها كما الأخت الكبرى ترعى شقيقتها. ونكبر في هذا الطقس. ينضم إلينا إثنان آخران من الإخوة غير الأشقاء ولا نشعر أنهم من أم أخرى غير أمنا. بيتنا ليس بيت ملائكة. توجد النواقص هنا وهناك – لكنا لا نراها ولا نسمع بها. كيف أدار أبي وأمي وعمتي بحنكة هذه الأمور لنجد أننا: الأبناء من حبسة و من جدة حزمة متراصة الأعواد وكأنما أنجبتنا أم واحدة؟ والحال ظل إلى اليوم.
وترحل إلى بارئها ذات يوم الوافدة الجديدة في هدوء ، مخلفة ثلاثة من الأولاد كان أكبرهم (يحيى) في السابعة من عمره، وأصغرهم (غزالي) إبن العامين ونصف العام. وهنا تحدث شبه المعجزة: تحضن الحاجة حبسة الأطفال الثلاثة وتعطيهم من الرعاية ما جعل الكثيرين يصفونها بأنها ملك في هندام آدمي. كانت تقود أخي الأصغر غير الشقيق غزالي ذا العامين ونصف العام معها أينما سعت.. حتى لزيارة الجيران. وتطلق على كل من الإثنين الآخرين لقباً من ألقاب الفروسية كما جرت العادة في مجتمعنا الرعوي.
ولأنّ أبناء وبنات شقيقتنا يبقون عند جدتهم – حاجة حبسة – من وقت لآخر، ولأنهم وإخوتي الصغار في أعمار متقاربة فقد تكلموا لغة مشتركة. الكل ينادي أمي “حبوبة” كما يناديها أبناء شقيقتنا الوحيدة. وهكذا ظلت كلمة حبوبة عند إخوتي حتى اليوم وهم رجال تعني أمنا حبسة. وفي عطلتي الأخيرة ، وقد انفردت وأكبرهم العمدة يحيى جمّاع ، خريج قانون جامعة النيلين، إنفردنا في داره العامرة بالكلاكلة في أنس حميم، استعدنا فيه تلك الحصة من العمر . ويحيى صديقي قبل أن يكون أخي. وفي لحظة أخذته الذكرى وهو يحكي عن آخر الساعات في حياة “حبوبة” – أمنا حبسة، لتسيل دموعه مدراراً حتى اضطررت للصمت لحظات ثم غيرت مجرى الحديث لموضوع آخر. جدير بالذكر أن الكثيرين من معارفنا وأصدقائنا يحسبوننا من أم واحدة.
لك الرحمة أمي حبسة..لك الرحمة أمي جدة. لكما الرحمة وواسع الجنان.
وأحدثكم عن الطيف الثاني. قلت بأني ولدتني ورعتني أم واحدة ، ولكني عشت حنان الأمومة عند طيفين آخرين وأنا كبير. الطيف الثاني الذي منحني شيئاً مقدراً من حنان الأمومة وأنا كبير هي الراحلة المقيمة كلتوم احمد شميلة أم زوجتي. وجدها شميلة من شهداء كرري ، وهو أخ الأمير علي الجلة جد الناظر بابو نمر – ناظر المسيرية. عاشت أنضر سنوات العمر مع شريك حياتها آدم حسب الله ، محاسب ريفي المسيرية يوم كان للوظيفة شنة ورنة. ولعل الذين حضروا تلك الأيام في غرب كردفان يذكرون الأفندي الوسيم والأنيق آدم حسب الله ومعه صديق عمره نمر حرقاص يوم كان الموظف محسوباً على الطبقة الوسطى ، قبل أن يصير المجتمع كله اليوم طبقة من الفقراء والمعدمين إلا قلة من الحرامية وسارقي اللقمة من أفواه اليتامى والمساكين.
ويرحل الزوج المحب، لتقف هذه السيدة على تربية ولدها وبناتها الثلاث بصبر وعزيمة لا يعرفها إلا أولو العزم. وحين شاءت القسمة زواج كبرى بناتها، قالت بأنها لا تريد الكلام في المهر وما يلحق به من سفاسف الأمور. وما أنسى لا أنسى كيف أنها وهي تودعنا – العروس وشخصي – وكنت أعمل خارج البلاد.. طلبت مني أن أجلس. أذكر كلماتها وصوتها الهادئ وكأني أسمعه اللحظة: ما عايزة منك يا ولدي غير حاجة واحدة بس .. لو قنعت من بنتي جيبها لي هني وفكها (أي طلقها) لكن ما ترميها لي في الغربة!
ثمان وعشرون عاما هي السنوات التي عشتها وكلتوم احمد شميلة الهادئة هدوء البحر تحتفي بكل مولود لي وكأنها منحت عمراً جديدا. ورغم إنها نعمت بحياة المدينة كزوجة موظف في ذلك الزمن الجميل لكنها ظلت محافظة على تقاليد جيلها. لم تسمح لنفسها بأن تأكل وإياي في مائدة واحدة. لم يرتفع صوتها وأنا معهم بالمنزل إكراماً لصهرها. تتحدث معي كما الأم مع ابنها – بحنان لا حدود له. وأشهد الله أنني لم أر أو أسمع منها ما أحسبه تكدراً مني طيلة حياتها. ولعلّ من أسعد لحظات حياتها أن حضرت حفل عقد زواج حفيدتها شيراز – كبرى أطفالي بالخرطوم، ورحلت إلى بارئها بعد ذلك بشهور قليلة.
نعم ..أنجبتني أمي حبسة حسب الله البشاري لهذا الوجود. لكنها صارت بكل أمانة وصدق أماً لإخوتي من أمي الثانية – جدة بعد أن اختار الله أمانته. ونعمت بحنو وعاطفة الطيفين جدة وكلتوم احمد شميلة.
واليوم والعالم يحتفل بعيد الأم فإنني أهدي هذه الخاطرة لأرواحهن الطاهرة. كنّ بعظمة وكبرياء هذا الشعب السوداني العظيم ..ولا غرابة فقد جئن من
صلبه. لذا فإننا نحاول جهدنا أن نتعلم منهن أجمل وأنبل صفات هذا الشعب
فضيلي جمّاع
لندن
عشية 21 مارس 2020