محمد جميل أحمد
على الرغم من أنّ الخطورة البالغة لهذا الخطر الفيروسي المسمّى “كورونا” تكمن في ثلاثة أمور: انتشاره السريع جداً، وغياب أي علاج له حتى الآن، وكذلك غياب لقاح، فإنّ في السودان من العادات والتقاليد الاجتماعية ما يمكن أن يمثل نموذجاً مثالياً في توفير بيئة خصبة للانتشار السريع لهذا المرض القاتل.
اليوم، بينما يدرك الجميع أنّ عالمنا أصبح قرية صغيرة، وأنّ سهولة التنقّل والاختلاط المفتوح فيه أصبحا أهم خاصية للاجتماع البشري في زماننا، لكن مع ذلك لا يزال هناك من يقلل من هذا المعنى، ويتصوّر تلك الحقائق كما لو أنها ضربٌ من الخيال! في السودان.
في شرق السودان بصفة خاصة، من أهم عادات البجا (سكان شرق السودان الأقدمون) أنه إذا مَرِضَ لهم مريض، ودخل المستشفى فإنّ من أهم الواجبات القبلية لعيادة ذلك المريض عند البجا، أن يعسكر أهله وأقاربه، نساءً ورجالاً، إلى جانبه طوال الأيام التي يقضيها للاستشفاء، فيخيمون في المستشفى، ويقيمون في فنائه إلى أن يخرج المريض من المستشفى، أو أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
ولطالما وصف ذلك المنظر الروائي السوداني المعروف أمير تاج السر “ابن مدينة بورتسودان” في روايته الجميلة (مرايا ساحلية) بقوله “كانت القبائل المحلية في ذلك الحين، خصوصاً قبائل البجا، قبل أن تهرسها ضرورات الحياة، تعشق المستشفى بشدة، تنتظر حتى يعتل قبلي، فتنتقل القبيلة كلها في ذيل علته، الرجال والنساء والأطفال، وسرعان ما يتحوّل متكأ المرض إلى متكأ راطن يتسلّى بالعصيدة ومرارة البن”.
ربما كان مغزى هذه العادة مغزى نبيلاً في الدلالة على المشاركة الوجدانية والتعبير عن وحدة مشاعر الجماعة، لكن مثل هذه العادة اليوم في أزمنة كورونا، ستكون هي السبب الرئيس في جلب المرض إلى الآلاف، لا سمح الله.
اقرأ المزيد
ولعل من أغرب الأشياء ما شاع في وسائل التواصل الاجتماع قبل يومين، الدعوة إلى تنظيم تظاهرة يوم السبت الماضي من أجل المطالبة بإصلاح الأحوال المعيشية، وكأنّ الداعين إلى هذه المظاهرة لم يسمعوا عن وباء “كورونا” القاتل، وفتكه بالتجمعات البشرية التي
هي أخصب الملاذات لانتشاره! وكان تصرّف الدولة في محله حين صدر قرار حكومي صارم بمنع التجمعات والتظاهرات.
وكذلك من أغرب الظواهر التي تتسبب في كوارث عظيمة لبسطاء البشر، ظهور ناشطي (فيسبوك) المهووسين بحب الظهور في كل مناسبة عامة ليتبرعوا بإشاعة الكوارث، حيث ظهر أحد نجوم ذلك الفضاء الافتراضي لـ (فيسبوك) يبشّر السودانيين، ويقسم لهم بأغلظ الأيمان أنه لا وجود لـ”كورونا”!
أمَّا أغرب المفارقات، فهو تصرّف غريب من طبيب سوداني، بعد أن حُجِزت زوجته المغربية في المغرب بسبب إصابتها بمرض “كورونا”، طار صاحبنا إلى السودان من دون أن يخبر أحداً، بل ومارس عمله الطبي، ودخل إلى غرف عمليات مع زملاء له، وأسهم في إجراء بعض العمليات، ثم فجأة بدت له أعراض حمّى، ما اضطر إلى حجزه وحجز زملاء له في حجر صحي حتى الآن، على الرغم من أن الله لطف به، واتضح أن نتيجته كانت سلبيةً بعد الفحص.
الحياة في السودان تتصل طبيعتها الجماعية بالمشاركات التي هي طقس لا مفرّ منه في كل الأحوال، فلطالما عُرِف السودانيون بحبهم التجمعات في الأسواق والمقاهي والأحياء، كما أن طبيعة الحياة القاسية في السودان والبنية الاقتصادية المتردية ربما لا يسمحان بالجلوس في المنزل بلا عمل اتباعاً لقواعد العزل الصحي المفترض في مواجهة الوباء، بينما حكومة الثورة التي ورثت خزينةً فارغة ليس في وسعها تقديم مساعدات مغرية للمواطنين تجعلهم يلزمون المنازل.
هكذا بدا الأمر، وكأنّ القدر يريد أن ينبّه السودانيين وطبيعتهم غير المبالية بالاحترازات المطلوبة للنجاة من فيروس كورونا، فقد ظهرت يوم الجمعة الماضي حالة إصابة ثانية بالفيروس في السودان، وكان حامله شخصاً أجنبياً يحمل الجنسية الإسبانية، الأمر الذي سيعني بالضرورة أن “كورونا” دخل السودان لا محالة، وأنه إذا أصر السودانيون على عادياتهم غير المبالية بالخطورة الماحقة لهذا الفيروس فإن ما ينتظرهم سيكون هو أسوأ الكوابيس.لا سمح الله.
إن اللامبالاة والتعلل بالرعاية الإلهية لأهل السودان عبر ادعاءات عشوائية هي أقصر الطرق للوصول إلى هذا الوباء الفتّاك، وبالتالي حلول كارثة لا يمكن أن يتصوّر أحد خطورتها في الإبادة والتدمير.
ونظراً أحياناً إلى الضرورات القاسية في خروج الناس بحثاً عن الرزق الضروري فإنه من الضرورة بمكان شرح وتعريف مفهوم “التباعد الاجتماعي” أو “المسافة الاجتماعية”، الذي لا بد أن تكون التوعية به مرتفعة جداً من قِبل وزارة الصحة والأجهزة الإعلامية والمنظمات غير الحكومية والناشطين في وسائل التواصل الاجتماعي.
كما ننبه إلى ضرورة أن تكون هناك شروحات باللغات المحلية الراطنة في جميع أنحاء السودان تشرح خطورة هذا المرض الفيروسي القاتل، وطريقة انتشاره، وأساليب الوقاية منه، إلى جانب شروحات وافية لمفهوم التباعد الاجتماعي سلوكاً ضرورياً حال الخروج والاختلاط بين الناس في الأماكن العامة.
في شرق السودان توجد مساهمات لبعض الناشطين في وسائل التواصل الاجتماعي في التوعية بفيروس ومرض كورونا عبر مقاطع صوتية وتسجيلات فيديو بلغتي البجا: “البداويت” و”التقراييت”، كما فعل صديقنا، الطبيب بمنطقة المدينة المنورة في السعودية، حامد سوميت، عبر مقطع صوتي بصري بلغة “التقراييت” شرح فيه من خلال أداء لغوي جذاب ورصين، خطورة هذا الفيروس، منبهاً إلى ضرورة الحذر منه بأقصى درجات الحذر. كما أطلق بعض الناشطين من أبناء البجاء بلغة البداويت، مقطع فيديو مصوراً يشرح خطورة “كورونا”.
حفظ الله السودان وأهله، والعالم جميعاً من هذا الفيروس القاتل.