حال السودان كحال المريض الذي أُزيلت عنه، وأُبطلت كل علاجات العمى المؤقتة، ومسكنات الإصابة؛ ليواجه عاصفته وحيداً دون أي قدرات من التخيل والهروب الواعي من أسباب مرضه المزمن الجبار؛ وليصبح على موعد مع الحقيقة العارية والمدمرة.
جاءت الثورة
عملاقة، فجرتها أجياله الجديدة؛ لتكشف عطل المبنى، وعطالة المعنى لتاريخ طويل ممتد
عاشه إنسان السودان بمعاناة وأعراض ضنك متعددة في شتى الضروب، فلم يكسبه حدث
الاستقلال السياسي سوى مدنًا بحيل حداثة متواضعة تناسخت أشكالها من النموذج الأم
الخرطوم، وخدمة مدنية تتعلم في مبادئ التطور المدني.
ولكن تلت ذلك
عروض من الخيبات (الوطنية) التي حفزت (أنا) الحنين إلى الماضي للالتفاف حوله،
واعتبار أن الذروة الحضارية كانت فيما مضى وفات.
هكذا تدثرت الطبقة الوسطى القديمة، وتدارت، وتحت
الضربات الموجعة للإنقاذ بأوهام إمكانية استعادة (الأمجاد) المبددة، ونظرت أحزابها
ومنظماتها لما بعد الثورة كفرصة جديدة للحياة بواسطة قيادة التغيير.
لم تنقض أشهر على ذلك حتى كشفت الجائحة عن خيبة وطنية
مطلقة في وصفات برامجها وإنتاجها من الحلول غير الناجعة، غير المطابقة والمتطابقة
مع نوايا وأمنيات الثورة الباذخة. لماذا؟ لانها ليست جائحة صحية وكفى. لأنها ليست
وباءً عارضًا فق،ط ولكنها كشاف لئيم موجع الإضاءة أفصح عن تصدعات المسرح من جميع زواياه
وارتفاعاته. شروخ مزمنة وأعطاب شارك الجميع في تربيتها وتغطية وبائها بجعله صامتًا
مسكونًا عنه، وممنوعًا من النقاش والجدل.
جاءت الجائحة يا سادتي لتقول لنا إن الإنقاذ لم تكن
سوى الحلقة الذروة من فشل التاريخ الوطني السوداني، أو التاريخ الحرج الذي أدخلنا
في مساراته عنوة او في (فتيله) كما جادت العبقرية الشعبية في هذه الأيام بمسميات
لطيفة وطريفة لحال الأزمة وإطباقاتها على الأفراد والأشياء معًا، فاستدعينا التاريخ
الحرج الى الأكثر حرجًا وقتامة، والذي يتمظهر بطرق عديدة رأس الجليد لها حتى الآن انهيار
المنظومة الصحية العامة. ولكن ينهض السؤال على الأركان الأربعة ليقول: هل ما يجرى
هو كذلك؟ هل المنهار هو النظام والمنظومة الصحية أم فلسفة الإدارة السياسية
الوطنية منذ الاستقلال في سلسلة إضاعتها لفرص العلاج ووضع البلاد في طريق التطور؟
بدا أن ذلك هو مكمن التصدعات الذي حملنا الأوهام عن
صحة مرضنا العام المزمن الماحق. الآن نزيل كافة المسكنات ووسائل النظر الاصطناعية
المحسنة لما نرى فنرى الأشياء منسية، مهملة، مقذوفة على قارعة الطريق كدالات حية
وحيوية عن الذات الجمعية المتصدعة أو ما يسمى الوطن.
هل نخترع العجلة ثانية؟ هل نستطيع إعادة تصميم
الاعتصام العظمة بمكان آخر جديد وهو الذي ربما لا يتكرر في المائة عام سوى مرة
واحدة فقط، أم نطلق ثورة جديدة بنسخة مختلفة جديدة تستهدف ايقاظ الضمير والعقل
وإقامة سيادة وسلطة منتجاته ونتائجه بأن يرث العقل الدولة الفاقدة لعقلها بواسطة
دعوة وتجميع كافة ذوي القدرات والمبادرات المتخصصة لصناعة افكار وطنية حديثة؟
نحن أحوج ما نكون اإلى الأخيرة والتي لا تطبق إلا بإزالة
وتحطيم جهاز الدولة القديم بتحفيز القدرات الشعبية وتهيئة الشروط والظروف لانطلاقة
إبداعها نحو بناء حديث. ربما في ذلك ومن أجل بلوغ أهدافه سنحتاج إلى مناعة القطيع
سياسياً وثقافياً، لكن لن يحدث ذلك برغبة معزولة عن البناء الذي ليس هو الإعادة
كما يذاع وينتشر، ولكن البناء من جديد لأجل هدم التاريخ الحرج، فنحن أمام كورونا
التاريخ والمكابرة على الأمراض التي ربما استدعت ذات وصفات الوقاية والعلاج منها.
فالكورونا اذا اقتضت حجراً صحياً فهذا يقابله حجر حميد للعقول حسب تخصصاتها، عبر
العمل على تشبيك كافة اصحاب المبادرات، والتنظيمات ذات الأفكار الجديدة بمراكمة
وتنقية وتنظيم التجارب والمبادرات التي تمهد لوضع العقل والقوة السياسية البديلة
للخروج من الحرج.
والكورونا إذا تطلبت عزلاً للمرضى، فنحن لدينا المرضى
ووصفات العزل بأسمائهم وتصنيفهم على مستويات صناعة القرارات بالأحزاب والقوى
والتنظيمات والمنظمات المدنية، وبواسطة ربطهم بالمواكبة المستمرة في حقل الثقافة
السياسية الحديثة والواقعية السياسية بجعل النتائج ملزمة وضرورية في التنفيذ في
عمل الفرق والمجموعات.
ذلك فقط ما سيقود إلى تغذية
المناعة لمقاومة المرض والانتصار عليه. ربما علينا القيام بذلك، وبتصرف أكثر في
سبيل الخروج من الحرج بمزيد من التوحد والوحدة في التفكير السياسي الجديد على
رابطة سياسية أخلاقية جديدة. وفي الكوارث فرص للشفاء والمعافاة.