إن كانت وزارة التربية والتعليم لم تعي حتى الآن (موطن) معركتها الحقيقية مع التمكين الإنقاذي الذي أحاط كالطوق بعُنق العملية التعليمية والتربوية ، فتلك مُصيبةٌ كُبرى تطعنُ في مقتل مُجمل ما نادتْ به شعارات ثورة ديسمبر المجيدة ، خصوصاً في متون مادتي (المساواة والعدالة) ، فإذا نظرنا إلى الحال الذي يسير عليه أمر (التغيير) داخل الوزارة ، وجدنا أن التركيز فيه أبى وإستعصى أن ينفَك من موضوع تعديل المناهج والذي على أهميته ليس سوى جزءاً بسيطاً من حجم (التحديات) الحقيقية التي يجب أن تواجهها الوزارة الإنتقالية وتعِدُ لها العُدة والعتاد.
فأمر تعديل المناهج وتفكيك الكادر البشري المتواجد بأمر التمكين السياسي في العهد البائد مقدورٌ عليه لأنه يخضع الآن (كُلياً) لسُطات الوزارة و(صلاحياتها) التي تخوِّلها لها اللوائح والقوانين ، وهي في ذات الوقت أمورٌ خاضعة لسُلطة التخطيط التي يملكها السيد/ الوزير وكبار موظفيه بحسب موجهات وبرنامج الحُكم الإنتقالي ، أما المشكلة الكبرى التي لم أسمع حتى الآن رأياً أو تصوُّراً واضحاً بخصوص (حسمها) هو (إستلاب) قطاع التعليم الخاص لرقعةٍ واسعة وشاسعة في سوق التعليم والتربية في السودان ، بالقدر الذي يجعل قطاع التعليم الحكومي من وجهة نظري لا يُمثِّل أكثر من 30 % من الواقع الميداني التعليمي في السودان ، وقد حدث ذلك إبان إعلان فاجعة التحرير الإقتصادي الموجَّهة لدعم مصالح الإسلاميين ، حيث إستحوذ أغلبهم بـ (التمكين الإقتصادي) على ملكية المدارس والجامعات والمعاهد الخاصة وما تبع ذلك من تجاوزات وتسهيلات وفساد ، حيث تمت مساندتهم بواسطة مراكز القوى والنفوذ على (التوسُّع ) و(الإحتكار) ، وذلك عبر (إفقار) وزارة التربية و(التغاضي) عمداً عن رفعها يدها تدريجياً عن (الولاية) على التعليم و إعتبارهُ (واجباً) رسمياً وإجبارياً تقدِّمهُ الدولة وترعاهُ و(تتحيَّز) لهُ تحيُّزاً سافراً وواضح المعالم لا يقبل الشك ولا الإحتمالات.
تفكيك غول التعليم الخاص في السودان في إعتقادي هو المعركة الحقيقية التي تواجه وزارة التربية الإنتقالية ، وإن حاولت (التعامي) عن رؤيتها ومواجهتها الآن ، لأنها مشكلة مُعقَّدة من الناحية القانونية ، حيث يتوقَّع أن يصطدم فيها الحق الخاص بالحق العام وما يتبع ذلك من تفاصيل فنية وعدلية يأتي في مقدِّمتها التعويضات المادية والمعنوية ، ومن ناحية أخرى فإن إستمرار (غلبة وإستقواء) قطاع التعليم الخاص الذي هيمَنْ على العملية التعليمية بشتى مستويات تكاليفها المالية التي إستطاعات إستيعاب كافة مستويات الدخول الإقتصادية المجتمعية ( ضعيفة ومتوسطة ومستطيعة) ، هو في نهاية الأمر إشارة لـ (إنعدام) قدرة الوزارة على فرض السياسات الإستراتيجية للتعليم بما في ذلك مبدأ مجانيته وإنحيازهِ لمباديء وشعارات المسار الديموقراطي ، هذا فضلاً عن القُدرة على توجيههِ لصالح بناء السلام والعدالة الإجتماعية وإقرار مبدأ المساواة الذي طالما ميَّز النظام التعليمي والتربوي في السودان قبل نظام الإنقاذ البائد.