الى كوبر وعمالقة السياسة وتاريخ النضال وذكريات محفورة على جدرانه
الصادق المهدي كان هنا والمرحوم محمد ابراهيم نقد كان هناك ومن هؤلاء واولئك اسماء ابطال بالآلاف لا تذكر اسم قائد سياسي معارض الا وقد مر على كوبر كلما تم تجديد بياض او طلاء جدران المعتقل كشفت عوامل التعرية الطبيعية وصروف الزمن صفحات مسجلة على تلك الجدران
يمكن ان نقول جدران قذرة تحكي البؤس و الاذلال وانتهاك كافة حقوق الانسان ولكنك تعود لتقول انها كتاب سطرت فيه ملامح بطولات من الصمود والجسارة والتحدي لكل دكتاتور متجبر متسلط وتجد على الحائط آلاف الاسماء بتواريخ الاعتقال وتواريخ الافراج منهم من قضى ايام ومنهم من قضى شهور ومنهم من قضى اعوام ومنهم من تمت محاكمته و اعدامه او اقتياله وجميعها في عهد نظام الثلاثين من يونيو المشؤوم
اننا لا نتحدث عن كوبر السجن وانما عن كوبر المعتقل
الذي يحكي التاريخ انه كان يتبع لشرطة السجون حتى بداية عهد نظام الثلاثين من يونيو البغيض حيث خصص قسم منه كالاستراحة و الشرقيات بزنازينها وعنابر الزاوية والنخلة والقاعدة والاوسط والكرنتينة للامن اشرافا وادارة ولا علاقة للشرطة به الا البواية الرئيسية المشتركة
عند دخولك الى قسم الامن في كوبر اول ما يطالعك طراز العمران الانجليزي القديم والذي لم يضاف اليه شئ الا الاهمال وكآبة حراسه وغلظتهم وسوء اخلاقهم وهو ما قد تم تدريبهم عليه فهناك بعض السلوكيات لا تتوقعها من سوداني اصيل تربى في اسرة محترمة و الا تكون قد انتزعت منه كل مظاهر السوداني الاصيل عبر تدريب طويل ولا اعرف شروط الاختيار لجهاز الامن ولكن بالتأكيد اهمها سوء الاخلاق والاستعداد لارتكاب الفظائع في مواجهة كل الناس
ومما يلفت انتباهك ايضا عدد الجنازير الضخمة و القيود (الكلبشات) المربوطة على الاسوار و جدران الزنازين الضيقة ثم تلاحظ تعامل الامنجية الفظ مهما كان عمرك او حالتك الصحية او درجتك العلمية او مهنتك
في الثلاجات جاء عسكري الامن وفتح الزنزانة وصاح فينا ( كيسك فرشتك صابونك معجونك عيشك واطلع ) والمعلوم ان عبارة شيلك كيسك لها مدلولان فقط اما الافراج او الترحيل الى سجن اخر لن تعلمه الا حين تصله
حينذاك كان الوقت بعض الفطور
هكذا احضرنا الى كوبر مجموعة كبيرة بسبب تعطل موتور المياه في الثلاجات وكذلك لتفريغ الزنازين لاعداد جديدة من المعتقلين وهناك مجموعات من الشباب قد تم ترحيلهم الى سجن دبك من كوبر ومن الثلاجات في ذات اليوم
وصلنا كوبر وتم تقسيمنا على العنابر والغرف ولحسن حظنا كنا انا و بلال ضو البيت ويوسف الحسني من ربك معا ومع كل مجموعة بربر وافراد الزنزانة 5 والذين قضينا فيها ما يزيد عن الشهر حتى اصبحنا اسرة واحدة وقد تم توزيعنا في عنبر النخلة ومن الذين تم توزيعهم معنا الاستاذ صالح محمود ووجدنا امامنا عدد كبير من المعتقلين بدخولنا وقف الجميع لتحيتنا بطبيعة السودانيبن السمحة التي يندر ان تجدها في شعب رغم كل ظروف الاعتقال والاضطهاد والاذلال فقد قابلنا الجميع بببساشة وابتسمات عريضة صافية صادقة ( مرحب اتفضلو اتفضلو مرحب بيكم ) وكأننا ضيوف في منازلهم و انا اكيد انهم سيذبحون الذبائح ضيافة لنا ان كنا في وضع طبيعي يدل على ذلك انشراح صدورهم وانفعالاتهم
فقد هرع بعضهم يجلب الماء ويقدمه ويفسح المكان الذي لا فسحة فيه لاجلاسنا
يا لروعتكم ايها الاصلاء حقا انكم الابطال فأنتم فعلا تمثلون الثوار السودانيين و تستحقون مثل كل الشعب السوداني وطنا بقاماتكم وسلطة بسماحة طبعكم تحترم انسانيتكم ونبلكم لقد كان عدد المعتقلين في النخلة ما لا يقل عن 25 معتقل لنصبح حوالي 32 كل شخصين في لحاف اسفنجي واحد
بالنسبة لي عرفني الاستاذ صالح محمود بالموجودين وهو يعرف عدد منهم ثم تم التعارف الجماعي بعد ذلك
اذكر منهم القادة الاستاذ فتحي فضل الناطق الرسمي الحالي للحزب الشيوعي والاستاذ علي سعيد عضو مركزية الحزب الشيوعي الاستاذ كمال بولاد رئيس حزب البعث القومي الاستاذ الماحي محمد سليمان الامين السياسي للمؤتمر السوداني و الاستاذ بدر الدين السيمت مؤسس مركز التأويل الذي اعتقل من المطار عائدا من بلده الثاني كندا والاستاذ عمار يوسف تجمع المهنيين الاستاذ فيصل شبو والصحفي عادل كلر والشقيقين دكتور عادل سوداني والاستاذ صلاح دوشكا والباشمهندس مهدي رابح واحمد خليل واحمد كوارث ودكتور احمد محمد والاستاذ الفاتح بشير ونصر الدين الجبل وابطال اخرين ارجو ان يسامحوني لاني لو لا اني خشىت الاطالة لذكرتهم جميعا فجميعهم قادة مناضلين لا يشق لهم غبار لا يقل المستوى التعليمي لاي من معتقلي عنبر النخلة عن البكلاريوس اساتذة جامعات و محامون واطباء ومهندسون ومعلمون ونشطاء مجتمع مدني من الخرطوم و مدني و ربك وسنار وبربر ثم اضيف الينا من القضارف الاستاذ عبد الوهاب ابو كلتومة و والاستاذ الفنان الطاهر الساير من القضارف
لم يطل الوقت حتى انسجمنا وانصهرنا كانصهار مواكبنا في الشوارع التي فارقناها بالاعتقال وكلنا نحن للعودة اليها متى خرجنا فلم نكن نفكر في شئ سوى الخلاص من نظام الظلم والقتل والذي نكاد نكون جميعنا على ثقة بزواله قرييبا بل على اصرار على ازالته مهما كلفنا ذلك واننا لن نسمح لهذه الثورة بالتراجع ان قدر لنا الخروج
لم يمر يوم واحد حتى انتظمنا في برنامج ثقافي ليلي كل ليلة نبتدر موضوعا يقدمه احدنا او اثنين منا ويدير المنصة احدنا وفي الغالب اما فيصل شبو او عادل كلر
ناقشنا التعليم والسنما والعدالة الانتقالية والنقابات وتجارب الثورة في بربر وربك والجزيرة ابا وغير ذلك من محاضرات كعلم التأويل الذي قدمه الاستاذ السيمت وحلقات النقاش
لقد كان بيننا المرضى مثل الاستاذ فتحي فضل والاستاذ نصر الدين الذي خرج لتوه من عملية قلب مفتوح وفيصل شبو الذي يعاني من ارتفاع ضغط خطير بالاضافة لمرضى السكر وغيره
كالعادة يبدأ يومنا من صياح احد الامنجية فيه بعض انسانية فينادي مع الفجر … الصلاة الصلاة ركعتين ينفعنك بعدين ثم ياتي احدهم بالشاي ثم ياتي اخر سائلا وهو سؤال يومي يتكرر ثلاثة اربعة مرات انتو كم
ثم ياتي اخر انتو كم والعندو بلاغ منو .. البلاغ كالعادة عايز دكتور او عايز اتصال او الضابط او ضابط قضيتي
لقد كنت اسجل يوميا للاتصال وهو ما يفعله غيري ولكن لا استجابة
من ابداعات السجن
ومنذ الزنزانة صنع الغالي جدا هشام منيدرة من كيس بلاستيك مخطط ليدو بابداع رهيب كما صنع ظهر الليدو من الصابون وعندما وصلنا كوبر وجدنا احدهم مزق فنلته الداخلية وخطط فيها الليدو والبسها في كرتونة كما اشتركنا في صناعة الكتشينة من كراتين الصابون واخيرا من كراتين اغطية الطعام التي تأتي كارساليات لبعض المعتقلين من الخرطوم
ثم يستمر اليوم من يتلو قرآن و من يلعبون ومن يغسل ملابسه ثم الفطور ثم الغداء ثم الرز بلا لبن للعشاء ثم البرنامج ثم النوم واحيانا ساعة رياضة خارج العنبر بطوله فقط و احيانا في هذه كنا نلتقي بمعتقلي عنبر الزاوية وقد التقيت هناك بالمناضل الكبير والحبيب العزيز الفنان المرح الاستاذ عطا حسين وهو من مرتادي كوبر كما التقيت الاستاذ عيدروس من عطبرة والاستاذ عبدالله من الدامر
لقد استمر الحال من اقتياد للتحقيق في الثلاجات فمنا من تم التحقيق معه عشرات المرات ومن حقق معه ثلاثة او اربعة مرات وهو تحقيق مكرور كما عادة ما نلتقي بمعتقلين من عنابر كوبر نفسه او من الثلاجات حيث كنا وقد التقينا بعدد مهول من المعتقلين اثناء الذهاب للتحقيقات وغالبا ما نجد معتقلين جدد فنعرف منهم اخر مستجدات الثورة ومواكبها
في ذكرى اخرى باذن الله ساتناول مواضيع التحقيق وانتقالنا الى عنبر الاوسط وزيارات القادة السياسسين ومقابلاتنا لساعات مع البعض سواء في كوبر او في الثلاجات اذكريات اخرى ان كان في العمر بقية