بعض المثقفين في بلادنا يبالغون في إعلاء وتقديس كل أمر يتعلق مباشرةً أو غير مباشرة بفكرة الموروث التقليدي ، الذي طالما تم إكتسابه عبر تواتر العادات و تلاقحها وتأثيرها بعضاً على بعض من منطلق تباينها الذي يترجم ترامي الأطراف الجغرافية لهذه البلاد وإختلاف منابع ثقافاتها وعاداتها ، وفي حقيقة الأمر إن هذا المنحى المتعلق بالتبجيل المطلق لكل ما هو منسوب للماضي بلا تمحيص في عمقه الضمني والشكلي فضلاً عن ماهية منافعه وأضراره الواقعة على المجتمع ، يمثل حاجزاً نفسياً لدى النقاد والمجدِّدين في شتى مجالات الحراك الإنساني للمجتمع ، وبذلك يصبح العداء (للماضوية) .. أو محاولة نقدها وتجديدها بغية التقويم بمثابة دائرة تجريمية كبرى ربما قادت من يخوض فيها إلى إتهامه بالتشكيك في تاريخ الأمة أو إنعدام الوازع الوطني ، وللحقيقة فإن مسارات تقويم الأداء والإرتقاء العام والنهوض التنموي خصوصاً على مستوى السياسة والإقتصاد والثقافة والفنون ، لا ينبني ولا يستقيم إلا بإعتماد نظرية الرجوع إلى الماضي ودراسته بالقدر الذي يفي بمعرفة إيجابياته وسلبياته وذلك من أجل إحكام الخطط التنمويه وتجنيبها مآزق وأخطاء الماضي ، وهذا في حد ذاته نوع من أنواع النقد للتاريخ والموروث الثقافي والمعرفي للأمة ، وفي حقيقة الأمر إن الإنسان من حيث الفطرة ميّال للإنحياز إلى جيله وحقبته التاريخية التي شهد فيها مع ذاته ما يشير إلى نشاطه الفكري والبدني والمهني وربما الإجتماعي والثقافي ، ومن هذا المنطلق ينحاز بالمطلق إلى عادات ومورثات زمانهُ الذي عاشهُ ، ومن ناحية أخرى يرفض في مكنون ذاته وإن إدعى غير ذلك في ظاهر الأمر كل محاولة للتجديد والنقد في ماضٍ يعتقد أنه الأصح والأجدر بالبقاء ، بعض المنحازين بالمطلق إلى حقبة غناء الحقيبة يعتبرون من ينقد شعر وغناء الحقيبة خارجاً عن مِلة الإبداع والمبدعين ، رغم أن الحقيبة للمتخصصين في فن الشعر وقواعده مليئة بالأشعار (المكسورة) من الناحية الوزنية والإيقاعية لجرس المفردة ، كما أن بعض هذه الأشعار يشوبها عيب المباشرة والإتجاه الحِسي في الوصف والخُلو المُطلق من الخيال ، مما جعلها لا تعبِّر عن مكنون المجتمع المحافظ آنذاك مما أخر بدوره حصول الشاعر والمغني على مكانته الطبيعيه الموصوفه بالإحترام والبذل والعطاء في مجتمع اليوم ، والنقاد في مجال الموسيقى ينعتون ألحان الحقيبة بالدائرية وإتسامها بالتكرار الممل والخالي من التفاصيل الجاذبه ، وبعض العادات التليدة المنتمية إلى مورثونا التقليدي كالخفاض الفرعوني ووشم الوجه والمغالاة في المهور لا تصلح أن تكون مثاراً للتقديس والتبجيل من منطلق أنها نبعت من ضمير الأمة وأعرافها وثقافتها ، فهي مواد فكرية وعلمية وسلوكية قابلة للنقد والتقويم والمقاومة ، يا هؤلاء ليس كل عتيق يحمل عبق الماضي كفيلٌ بالإحترام والحماية ، بعض منتجات التاريخ الفكرية والإجتماعية والإقتصادية والسياسية مشوبة بالخلل والعيوب التي تكفل للنقاد والمجدِّدين الخوضُ في دراستها وتقويمها وربما حماية المجتمع من إمتدادها وبقاءها.