طرح رئيس حزب الأمة القومي الصادق المهدي عدداً من القضايا في خطبة عيد الفطر المبارك بمنزله بالملازمين 1 شوال 1441هـ الموافق 24 مايو 2020م
الخطبة الأولى
اللهُ أكبرُ.. اللهُ أكبرُ.. اللهُ أكبرُ الحمدُ للهِ مميزِ الإنسانِ بثلاث مواهبٍ: نفث فيه من روحه، ووهبه العقل البرهاني، وحرية الاختيار الشرط اللازم للامتحان: (أَلم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ). الصيام وأحكامه والعيد وسنته من أوراق هذا الامتحان وحقيقته أن يكون بصلاة حاشدة عدلناها هذا العام مراعاة لواجبات صحية (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) ولكن زكاة الفطرة والإكثار من الصدقة أوجب لأن عدد المحرومين والمحتاجين أكبر ومقدارها الآن 200 جنيهاً للزكاة، و100 جنيهاً للفدية للفرد، ووقت إخراجها صباح عيد الفطر قبل صلاة العيد، ويجوز إخراجها قبل ذلك بيوم أو يومين، فإن أخرجت بعد الصلاة كانت صدقة من الصدقات.
أحبابي في الله وإخواني في الوطن العزيز
أحدثكم في الخطبة الأولى في أول عيد بعد فض الاعتصام الوحشي عشية العيد الماضي، نسأل الله أن يتقبل الشهداء ويعيد المفقودين ويحسن عزاء أسرهم والشعب كافة، ونطالب بتحقيق العدالة الانتقالية على نحو يطبب الجراح. وهو كذلك أول عيد بعد تكوين الحكومة الانتقالية نتاج الثورة المباركة، أحدثكم عن البركات التي صحبت الثورة وأهمها: حاضن الثورة الذي رفض انقلاب يونيو ونظامه منذ يومه الأول، وتراكم الانتفاضات ثلاثين عاماً، والموكب الفريد في يوم ذكرى 6 أبريل، واحتضان القيادة العامة للاعتصام بدل البطش به، وإجماع اللجنة الأمنية على الانحياز للشعب بدل الفتك به كما كان مرتباً لهم، ووجود قيادة اتسمت بالحكمة فشاركت الثوار وعملت على تحقيق تزاوج بين الحماسة والمثالية الشبابية المعهودة وبين مراعاة توازن القوى لتحقيق معادلة عملية على النهج الشرعي المطلوب وهو إدراك الواجب والاحاطة بالواقع والتزاوج بينهما. نعم أقمنا نظاماً مدنياً تشاركياً. مع استحقاقات الشراكة وفي ظل الحريات العامة كيف نستطيع بناء الوطن في ظل السلام والتنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية والاحتكام الديمقراطي للشعب؟
أحبابي في الله وإخواني في الوطن العزيز
تحالف الحرية والتغيير حقق خطوات إيجابية، وحقق ولاية مدنية في تحالف مع المكون العسكري الشريك، ولكن الواقع الفكري والسياسي الموروث في البلاد أفرز تحديات كثيرة خاطبناها في وثيقة العقد الاجتماعي لإصلاح الفترة الانتقالية وتحقيق أهداف الثورة، وأتحدث هنا عن بعض التحديات الفكرية والسياسية:
أولاً: تجربة النظام المباد لوثت الشعار الإسلامي تلويثاً شنيعاً: في بداية التجربة قامت على انقلاب. قال الإمام الألباني عن الانقلاب: “هذه أفعال لا أصل لها في الإسلام، وهي خلاف المنهج الإسلامي في تأسيس الدعوة وإيجاد الأرض الصالحة لها، وإنما هي بدعة مارقة”. وتأسس النظام على خدعة تجوز في الحرب ولكنها باطلة في التعامل السياسي كما قال نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام: “مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا”. وفي بداية التجربة وجهت الاسئلة الآتية لشيخ الأزهر د. محمد سيد طنطاوي، كان ذلك عام 1997م، كالآتي: هل يجوز الانقلاب العسكري لتطبيق الشريعة؟ قال: لا. هل يجوز إقامة نظام سياسي على الاكراه باسم الشريعة؟ قال: لا. هل يجوز لفئة حزبية أن تستأثر بالسلطة والمال تمكيناً لأنفسهم باسم الشريعة؟ قال: لا. هل يجوز الاستيلاء على السلطة أولاً بأسلوب المكيدة وبعد أكثر من عام مطالبة الناس بالبيعة؟ قال: لا. هل يجوز تطبيق الزكاة على الدخول وعلى المعاملات التجارية كضريبة مضافة دون مراعاة حالة المزكي الاجتماعية؟ قال: لا. هل يجوز أن يصنف حاكم معارضيه كفرة ويعلن عليهم الجهاد؟ قال: لا. قلت هذا هو حالنا في السودان. قال كان الله في عونكم.
وفي كتابي المصير الوطني في الميزان الصادر في ديسمبر 2010 كشفنا بطلان تجربة النظام الانقلابي في السياسات والتشريعات بصورة مفصلة. انتقدنا مفهوم الحاكمية في دستور 1998م، وفندنا قانون تنظيم العمل المصرفي لسنة 1991م الذي ساوى سعر الفائدة بالربا واستبدله بمعاملات إسلامية الاسم ولكنها الأبعد عن مقاصد الشريعة وأشد استغلالية، وانتقدنا تجربة الزكاة التي تجعلها ضريبة مزدوجة على المسلمين بدون شروطها بحولان الحول وبلوغ النصاب، وبينا علل التجربة الإنقاذية المشوهة للإسلام. وفي كتاب “حقوق المرأة الإسلامية والإنسانية” بينا مساوئ قانون الأحوال الشخصية للمسلمين لسنة 1999م المستند على فقه منكفئ يغمط حقوق النساء، عارٍ عن أي نظرة مستنيرة للدين ومتخلف على العرف السوداني. وفي مصفوفة الخلاص الوطني التي قدمها حزب الأمة في 2019م أكدنا على ضرورة لفظ الاجتهادات المنكفئة في القوانين: الجنائي، والمصارف، والزكاة، والأحوال الشخصية، ومنظومة النظام العام وغيرها تحقيقاً للعدالة ونصرة للدين الذي شوهوه. بعض ما طالبنا به تم تحقيقه ولكن لا تزال اجتهاداتهم الباطلة في الزكاة والمصارف وغيرها تنتظر الإصلاح.
ثانياً: صحيح تجربة النظام المباد الإسلاموية سقطت، ولكن تجربتها باسم الإسلام أفرزت ردود فعل في اتجاهات مضادة أهمها درجة عالية من الانهيار الأخلاقي في كل المجالات لا سيما تعاطي المخدرات حتى قال عالم نفسي صارت الخرطوم مدينة مسطولة. ولأول مرة أدى النفور من الشعار الإسلامي إلى الإلحاد بشكل لافت بالمقارنة ببقية الدول الإسلامية، وصار أفراد من الرجال والنساء يعلنون إلحادهم. وفي عام أفول النظام 2018م علت الأصوات المحذرة من تنامي ظاهرة الإلحاد بشهادة أهلها: قال الأمين العام لمجلس الذكر والذاكرين إن نسبة الإلحاد وسط طلاب الجامعات بلغت 8%، وذكر رئيس المجلس الأعلى للدعوة بالعاصمة إن دراسة أجراها مركز الاستشراق الدولي كشفت عن 1200 ملحد في 11 جامعة بالخرطوم وأن الانحرافات الدينية موجودة وتزداد يومياً، وذكرت كتابات عديدة انتشار الإلحاد وسط أبناء قيادات المؤتمر الوطني، كما تمت محاكمة عشرة أشخاص مسلمين اعتنقوا المسيحية، وترددت أنباء التحول من الإسلام للمسيحية وسط قبائل لم يسبق فيها اعتناق غير الإسلام.
ثالثاً: النفور من التجربة الزائفة باسم الإسلام جعل عدداً من المثقفين السودانيين يعلنون تأييد قيادة المرحوم د. جون قرنق للسودان لأنه سوف يمنح البلاد العلمانية. العلمانية فكرة محملة بأثقال فلسفية نافية لأية قيمة لما ليس دهرياً، ولها منطقها الفكري ومن أهم مفكريها أمثال بيتر بيرقر وتشارلس تيلور من رحبوا بحق أية حركة ذات مرجعية دينية ما دامت تقبل المساواة في المواطنة والتعددية. ولكن المناخ الذي أفرزته التجربة الإسلاموية أسفر عن نشأة حركة علمانوية، أقول علمانوية لأنها تتخذ العلمانية سلماً للسلطة. من هذا المنطلق أعلن بعض من مكونات الحرية والتغيير وحلفاؤهم تجمعاً علمانوياً بعنوان: الحلف الاستراتيجي لتوطين واستدامة الديمقراطية في السودان. أنشطة هؤلاء وتصريحاتهم تساوي بين الإسلام وبين تجربة النظام المباد. هؤلاء يعلمون أن أغلبية المسلمين في السودان يرفضون محاكمة الإسلام بحيثيات النظام المباد، وكذلك يرفضون العلمانوية بل ان تصريحاتهم وطموحاتهم أدت إلى ردة فعل في اتجاه مضاد فتكونت حركة غلو باسم الإسلام، واستغلتها قوى الردة للتخويف من الثورة والتباكي على النظام المباد.
رابعاً: ظاهرة الإلحاد والردة والعلمانوية أدت لنشأة حركة اسلاموية تتسم بالغلو كما قال ابن مسعود كاد الشيطان للإنسان بمكيدتين عظيمتين لا يبالي بأيهما ظفر: الغلو والترك. هذا الغلو الإسلاموي هو الملوث الرابع للجسم الفكري والسياسي في السودان. إنهم ملوثون أصحاب فكر إقصائي أبعد ما يكون عن مقاصد الإسلام وعن الاحتكام للشعب عن طريق الديمقراطية.
خامساً: التجربة الثورية السودانية تحمل في طياتها المدنية والديمقراطية والسلام والتنمية والعدالة الاجتماعية، وهي بذلك تشكل عبوراً تاريخياً نحو أفق جديد سوف تتحرك ضده قوى ثورة مضادة حتماً، لذلك تتحرك الآن قوى ثورة مضادة وافدة.
سادساً: لقد حدث اضطراب شديد في المطالبة بإنشاء بعثة وصاية سياسية على البلاد بموجب الفصل السادس، حدث هذا بصورة انفرادية ثم جرى تصحيح في خطاب ثاني، وهناك معلومات عن قرار دولي يصدر على السودان بموجب الفصل السابع قدمتا مشروعه بريطانيا وألمانيا لمجلس الأمن بينما تؤيد روسيا والصين قراراً تحت الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة. صدور قرار تحت الفصل السابع مرفوض وسوف نقترح مذكرة لمجلس الأمن توقع عليها كل القوى المكونة للفترة الانتقالية تحدد الدور المطلوب وترفض أية وصاية دولية تحت الفصل السابع، وسوف نتصل بدول مجلس الأمن للاستجابة للمطلب السوداني. كذلك نرفض قرارات اليمين الإسرائيلي المخالفة للقرارات الدولية، ونرفض التطبيع مع إسرائيل، ونسعى لموقف وطني مشترك حول هذا الموضوع. بالإشارة لتصريح مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشئون الأفريقية أقول إن تحميل السودان الحر غرامات على جرائم النظام المباد ظلم كبير، فنحن أنفسنا من ضحايا ذلك النظام، وظلم فادح أن يغرم الضحايا، دفع غرامات مستحقة على المجرم. إن محاولة الضغط على سودان الثورة بدفع غرامات سودان الراعين للإرهاب يكلف السودان فوق طاقته، ويساهم في استنزاف الحكم الانتقالي في السودان.
نعم للضحايا حقوق تعويض يمكن للولايات المتحدة أن تأخذها من الغرامات المدفوعة من بنوك عوقبت على التعامل مع النظام المباد، أو من أموال قادة رعاة الإرهاب من مغتصبي الحكم في السودان المسروقة، ولكن محاولة استنزاف السودان الديمقراطي نهج ظالم ويغيب الفرق بين الظالم والمظلوم.
سابعاً: نحن نمثل الشرعية التاريخية وشرعية التصدي لكل نظم الطغاة، والشرعية الوطنية منذ استقلال السودان الأول ثم الثاني والوزن الشعبي الأكبر بشاهد ما جرى في البلاد من انتخابات حرة والاجتهاد الفكري الأوسع، ولأننا الوحيدون الذين لم نشارك النظام المباد في أي مستوى ووحدنا لم نعترف بشرعية دستوره الأخير، وبدلالة طوافنا بعد الثورة. مؤهلات تفرض علينا التصدي لكل تلك التحديات بالفكر والتعبئة الشعبية.
لا لاحتكار المنصة الوطنية بل لحماية تلك المنصة من عثراتها، وتوافق كافة القوى المستعدة لبناء الوطن بأسلوب الاجتهاد الفكري القويم والجهاد المدني السليم وحماية الفترة الانتقالية حتى تكمل وقتها في ظل التحالف المدني العسكري الملزم والسير به إلى المرحلة الثالثة للثورة: مرحلة الاحتكام للشعب الحر، ونرفض في ذلك أي اتجاه لتمديد الفترة الانتقالية، كما نعارض تشتيت الإجماع أثناءها بالأطروحات الخلافية فهي مرحلة قائمة على التوافق، ونقول على معتنقي الأفكار والأيديولوجيات المختلفة أن يطرحوها في برامجهم الانتخابية. لقد جمدنا عضويتنا في تحالف الحرية والتغيير لا زهداً في العمل الجماعي بل لتفعيله وتعضيده وتحويل التحالف إلى جبهة قادرة على القيام بدور حاضن سياسي مساند للحكومة لا عبئاً عليها. لقد قلت في أكثر من مناسبة إن بعض زملائنا في الحرية والتغيير عينوا أنفسهم أوصياء على الحراك الثوري تصيداً للمناصب.
القوى الشبابية والنسائية الثورية كان لها دورها المشهود وهم يمثلون إضافة دم جديد للجسم السياسي السوداني. هؤلاء ينبغي أن يمثلهم جسم ويحتل مقعداً معتبراً في صنع القرار الآن، وسوف نخاطبهم لنيل دور مؤثر في الانتخابات القادمة فمن جد وجد.
أحبابي سوف نصمد في سبيل تحقيق هذه الأهداف. وسوف نرحب بكل مستجيب ونعلم يقيناً: إذَا التَفَّ حَوْلَ الحقِّ قَوْمٌ فَإنّهُ يُصَرِّمُ أحْدَاثَ الزَّمانِ وَيُبْرِمُ ونعلم يقيناً الوعد الإلهي: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ). العيد مبارك تقبل الله صيامنا وقيامنا ونسأل الله النجدة للسودان، ونسأله أن يرحمنا ويرحم آباءنا وأمهاتنا. وأن يهدينا ويهدي أبناءنا وبناتنا. ولقد وعد ووعده الحق: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ).
الخطبة الثانية
الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر الحمد لله القائل (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أنابَ إليَّ) إلي والصلاة والسلام على حبيبه القائل: “يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ”. أما بعد- أحبابي في الله وإخواني في الوطن العزيز لقد نشأ نزاع حول الدعوة المهدية في السودان، وحكم البعض ببطلانها لأنها لا تطابق بعض المواصفات خاصة أن تأتي في آخر الزمن. لقد رفضها كثيرون وأشاد بها كثيرون أهمهم: ما قاله أحمد العوام أحد زعماء الثورة العرابية في كتابه رسالة العوام داعياً لتأييدها لأنها تلبي حاجة الأمة. ما قاله الشيخ سعد محمد حسن صاحب كتاب المهدية في الإسلام إذ قال: حتى ليعد محمد أحمد بحق خير من أدعى المهدية. ما قاله د.عبدالودود شلبي عن المهدية: كانت حركة تمثلت فيها كل حركات الإصلاح في عصرها. وآخرون: عبد الحليم عبدالعظيم البستي. و دكتور محمد عمارة، وصاحبا العروة الوثقى السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده، وهلم جراً. لقد اطلعت على كل كتابات الامام المهدي وأعلنت ان دعوته لا تتعلق بشخص غاب وسيعود ولا بآخر الزمان إنما تتعلق بوظيفة إحياء الدين. وخلاصة الدعوة استجابة لتوجه رباني: (فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ). وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ)، وغيرها من الموجهات. و
على أية حال ينبغي اعتبار أهم آثار الدعوة كمخصب لصحوة الأمة: أنها ادعت وصالاً روحياً لا ينكره غالبية المسلمين. أنها تركت سجل مناجاة -الراتب – لا يجارى. أنها نزعت الشرعية لاتباع الاجتهادات البشرية ليكون الاعتماد على قطعيات الوحي. أنها ألزمت الاتباع في كل المسائل الشعائرية. أنها أوجبت مراعاة ظروف الزمان والمكان والحال بعبارة: لكل وقت ومقام حال ولكل زمان وأوان رجال. أنها ربطت مشروعية ما ينسب لها بالتطابق مع صحيح الدين. بموجب تعاليم الإمام المهدي ينبغي النظر إلى دعوة المهدية على أساس وظيفي لا شخصي ولا زماني.
من هذه المنطلقات فدعوتنا هي إشراقة لدعوة الأمة لتخصيب صحوتها. أحبابي في الله واخواني في الوطن العزيز ثورة الاتصالات والمعلومات والمواصلات جعلت العالم كله شبيهاً بقرية واحدة. هنالك اجتماعات دورية لكل الملل في العالم. وقد طلب مني أن أخاطب مؤتمراً لكل الأديان في يوليو 1976 في مدينة كانتربري البريطانية. في المحاضرة في القسم الأول تطرقت لماهية مشاكل العالم المعاصر. وفي القسم الثاني من المحاضرة ذكرت كيفية استجابة الإسلام لهذه المشاكل.
كان رئيس الجلسة قساً مسيحياً قال: المحاضر أنصفنا فأرجو أن نتبع نهجه: أن نقر تصوره لمشاكل العالم وأن يقدم كل منا رد ملته لحل تلك المشاكل. منذ ذلك الوقت نشطت قضية الحوار بين الأديان والحضارات. صحيح هنالك في كثير من البلدان مخاوف من الإسلام، بل صدرت كتب كثيرة تعبر عن مخاوف من انتشار الإسلام وتثير عصبيات مضادة أهمها ظاهرة الإسلاموفوبيا أي كراهية الإسلام. اليوم توجد اتجاهات توحيد عالمية أهمها: التوحيد التكنولوجي، والنظرة الموحدة لمكارم الاخلاق، وتوحيد النظرة لحقوق الانسان، ووجود منظمات عالمية لحفظ الأمن والسلام، واهتمام موحد بسلامة البيئة. هذه التطورات الإيجابية تحتاج لماعون روحي، لذلك صار كثير من المفكرين يتساءلون عن أية ملة تصلح لتقديم ذلك الماعون.
كمسلمين تساءلنا عن مدى تخصيب الدعوة الإسلامية للثورة الإنسانية الصاعدة المحتاجة لماعون أخلاقي وروحي. في هذا الصدد تساءل الأستاذ روبرت شدنقر عالم الأديان المقارنة في كتاب بعنوان: هل كان المسيح مسلماً؟ باعتبار الإسلام مبدأ وليس اتباع شخص. وأجاب بنعم. وهنالك دراسة استاذين جامعيين إذ تحدثا عما سمي المقياس الإسلامي المستخلص من تعاليم القرآن الكلية لا الشعائرية.
ومن تلك التعاليم اختارا 113 قيمة في الأخلاق والمعاملات صالحة للتطبيق العالمي. وفي هذا الصدد أصدرنا نداء الإيمانيين للتعايش الأخوي بين الأديان منذ 2001م، وصدر مؤخراً نداء للتعايش مشترك بين الأزهر والفاتيكان، ونداءات ومنابر عديدة سعت وتسعى لتحقيق التعايش ووقف الاقتتال والعنف على أساس ديني.
ولأن الإسلام يعترف بالتعددية وعدم الإكراه في الدين فإنه الأقدر بين الأديان على تبني هذا الهدف. وبما أن الإسلام لا يعتمد سلطة دينية فإنه من حقائق الوحي يقبل التعددية الثقافية والإثنية: (مِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ). الإسلام أصلح ديانة لإيجاد ماعون روحي للإخاء الانساني والوحدة العالمية. صحيح هنالك حركات إسلاميين في اتجاهات مضادة كردود فعل على المظالم. ولكن أصلح ملة لإعطاء سياج روحي وأخلاقي للإخاء الانساني والوحدة العالمية هي الإسلام. حالة يصدق عليها قوله قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ)، وقوله صلى الله عليه وسلم: “بُعِثْتُ إلى النَّاسِ عَامَّةً.” قال تعالى: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِين* وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ). الإسلام يعترف للإنسان كإنسان بالكرامة، وبموجب قوله تعالى (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ). هذا معناه أن نواميس الوجود من آيات الله، تمثل كتاب الله المنظور. إن كل هذه الشواهد تؤكد مرة أخرى صحة نبوة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتؤكد صحة عنوان كتابي القادم: الإنسان المصطفى رسول الإنسانية.
أحبابي وأخواني إن لجائحة كورونا آثاراً مزهقة للأرواح مدمرة للاقتصاد، ندعوه سبحانه وتعالى أن يخلص منها البلاد والعالم قريباً. بعض الغالين اعتبروا الوباء عقاباً للعصاة، وبعض أهلنا استخفوا بإجراءات الاحتراز التي نص عليها الأطباء على أن المرض قضاءٌ وقدرٌ ينبغي التسليم به. ولكن تاريخنا يؤكد أن الأوبئة نزلت على الناس دون تمييز، وقد يمحص الله المؤمنين بالبلايا قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ). أما الاستخفاف بالمرض وبالوقاية منه فمعارضة صريحة للشريعة ومن مقاصدها حفظ النفس، قال تعالى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)، والرسول صلى الله عليه وسلم نص على الحجر الصحي في الطاعون، قال: “إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوهَا عَلَيْهِ، وَإِذَا دَخَلَهَا عَلَيْكُمْ فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهَا فِرَارًا”، وعندما هم مسلمون الذهاب لعمواس، إحدى مدن الشام الموبوءة، منع عمر رضى الله عنه ذهابهم. قال أبو عبيدة رضى الله عنه أفِرَارًا مِن قَدَرِ اللَّهِ؟ قال عمر: “نَعَمْ نَفِرُّ مِن قَدَرِ اللَّهِ إلى قَدَرِ اللَّهِ”.
وإذ أشكر كل الدول والجهات التي دعمت بلادنا في مواجهة الجائحة وساندت مواطنينا العالقين في الخارج، أوصيكم أحبابي بالحرص على اتباع التعليمات الصحية حماية لأنفسكم وبلادكم والشرائح الضعيفة صحياً على وجه الخصوص فقد انتشر الوباء بصورة تهدد المجتمع بالويل والثبور، ولا مجال للتدارك إلا بالالتزام التام بالتوجيهات.
وأناشد المسؤولين لإعانة الأسر المحتاجة التي يرهقها الحجر أكثر، وتوفير أدوات الوقاية للكادر الطبي وحمايتهم من التعديات، وتوجيه اهتمام للولايات حيث لا تتوفر آليات الفحص والعزل والعلاج. وأناشد أهلنا من القبائل المحتربة في تلس وبورتسودان وكسلا وكادقلي والمحيريبة وقف القتال وإبرام مصالحات، وقد كونا لجنة عليا للطواف عليهم ومعرفة الحقائق ودعم التحقيق لإنصاف المظلومين ومساءلة الجناة ولتقديم العون الإنساني للكافة.
كما أناشد الحكومة القيام بدورها في حفظ الأمن، وسنقوم وغيرنا من القوى المعنية بالسلام الاجتماعي بما نستطيع في سبيل إصلاح ذات البين. وأناشد الأخوة في الخليج وقف الحروب الإقليمية المدمرة لجميع أطرافها فلا سبيل إلا الحوار والتعايش. أنا وممثلون لضمير أمتنا لن يهدأ لنا بال حتى نوقف الحروب البينية في اليمن وليبيا والفتنة الخليجية والمواجهة في حوض النيل. أحبابي في الله وإخواني في الوطن العزيز اعفوا عني فأنا عافٍ عنكم، وأرجو لي ولكم الهداية لنجتهد ونجاهد لتحقيق المعاني الخطبة الأولى للسودان وفي الخطبة الثانية للأمة والإنسانية. والسلام عليكم .