• رغم انشغال السودانيين بأزمة انتشار وباء “كورونا” القاتل، وإغلاق العاصمة الخرطوم الذي تجاوز الشهر الآن، وأعداد الوفيات تتزايد بين من أصيبوا بهذا الداء، الذي زحف من العاصمة لأقاليم السودان كافة، وحدوث كل هذه التطورات وسط أجواء أزمة اقتصادية تضاعفت جراء الركود الذي نتج عن الإغلاق الكامل للعديد من مرافق النشاط الصناعي الخدمي، رغم كل هذه التحديات الخانقة، فقد أبى المشهد السياسي إلا أن يزيد الأمور تعقيداً والنار اشتعالاً، فيكشف عن مهددات جديدة ومحاولات لشقّ الصف وخلط الأوراق، وتهيئة الأجواء لمزيد من الانقسامات، والتشظي، وإعادة بناء التحالفات على أسس جديدة، وهي تحالفات يقدم عليها البعض بحسن نية، ورغبة في إصلاح المسار، بينما يقدم عليها آخرون لتحقيق مآرب أخرى تدور كلها حول إجهاض الثورة أو انحرافها عن مسارها القاصد، نحو تحقيق أهداف شخصية أو فئوية.
• هذا الواقع أحدث ارتباكاً شديداً في المشهد السياسي، وأثار قلق كثيرين، لأن هذا الشحن الذي شهدته الساحة السياسية، وهذه المشاريع المتعارضة والمتضاربة، وهذا الحراك غير المرشد، كل ذلك قد يصل بالناس إلى مغامرات غير محسوبة أو انفجارات عفوية تخدم مصالح أعداء الثورة المتربصين بها أبداً.
• ولا يستطيع أحد أن يدعي أنه يمتلك وصفة سحرية تعالج هذا الواقع المأزوم، ولكن الكلمة القائمة على التجربة تقول إن هذا الواقع لن ينصلح إلا بما صلح به أوله، أي العودة من جديد إلى منصّة التأسيس، وإلقاء نظرة فاحصة على المشهد، بغرض الاتفاق على رؤية متكاملة لما ينبغي أن تسير عليه الأمور، وتتمخض تلك الرؤية عن استراتيجية متفق عليها لتحقيق متطلبات أساسية وعاجلة، وفي مقدمتها تحقيق السلام ووقف الحرب وتخطيط الحلول العاجلة والآجلة للخروج من الأزمة، ثم الإعداد للتحوّل الديمقراطي الراشد الذي يعالج أزمات الماضي، نحن الآن في وضع يسمح لنا بأن نضع استراتيجية أكثر واقعية ومعرفة بكل المعيقات والتحديات، وأكثر تمسّكاً بالتخطيط العملي المرتبط بالواقع، وليس القائم على التفكير “الرغائبي”، هذه “الرؤية” هي المرشحة لأن تعيد توحيد قوى الثورة، وتبعد عنها شبح الانقسامات، خاصة خلال الفترة الانتقالية ،فالقوى التي قادت الحراك الثوري وحّد بينها أثناء الحراك هدف واحد هو “إسقاط النظام”، ولم يفلحوا بعد إسقاط النظام في تطوير مشروع وطني نهضوي يوحّد بينهم ويتمتع بولائهم، ولذلك تقاسمتهم تيارات مختلفة، ونشطت وسطهم توجّهات عديدة، وطموحات فردية وفئوية، الأمر الذي أدى إلى هذا التشظي الذي نشاهده اليوم، وإلى هذا الضعف في الأداء، لأنه ما من رؤية شاملة توجّه ذلك الأداء.
• جزء من هذه الرؤية ورد في المصفوفة التي تبناها مجلس الوزراء وأعلنها رئيس المجلس، وبعضها ورد في مذكرة حزب الأمة الأخيرة، وبعضها في مذكرة المؤتمر السوداني، وكثير منها جاء في تعليقات صحافية وحزبية عديدة، نشرت في الأسابيع الأخيرة، كما أن بعضها أفرزته التطورات التي حدثت مؤخراً، ومتى ما التففنا حول هذه الرؤية سنجد أنفسنا في وضع يمكّننا من إعادة اللحمة للحرية والتغيير، وإعادة النظر في نظمها وفي هياكلها وفي الأدوار التي ينبغي أن تؤديها، حتى لا تصبح “حاضنة” للحكومة فحسب، بل أيضاً هادية لها ومرشدة “وحامية”.
• وفي الختام، ينبغي أن نتذكر أن التشظي الذي طال القوى المدنية لحق أيضاً القوى العسكرية، وهو أمر مثير للقلق المشوب بالمخاوف، وسنعود إليه لاحقاً.