قضى عالم الآثار السويسري شارل بوني 43 عاماً في التنقيب في السودان عن آثار الحضارة النوبية، وبالأخص آثار عاصمتها كرمة مقدماً كثيراً من المعلومات والمعطيات المهمة عن بعض المعالم المجهولة في عمق التاريخ، وهو ما أجمله بقوله “كنا في البداية نبحث عن آثار مصر في السودان، ثم ترسخت لدينا قناعة بأنه من الأهمية بمكان تعميق البحث عن ماضي السودان العريق، والمهم والذي له دلالة كبرى بالنسبة إلى كامل القارة الإفريقية حيث أثبتت بعض الدراسات الحديثة قدم الحضارة السودانية، بل إن شواهد علمية تشير إلى أن أرض السودان هي التي شهدت أول حضارة إنسانية على الإطلاق “.
وليس أدل على ذلك ما كشفت عنه تلك الدراسات من الفراعنة السودانيين السود المنحدرين من منطقة النوبة، الذين حكموا المنطقة حتى تخوم فلسطين ومنهم، تاهرقا، وتانوت آمون، وملوك حكموا البلاد فيما بعد مثل آسبلتا، وآنلاماني، وسانكامنيسكن وغيرهم وهي حضارة سودانية محضةعبرت عن تجلياتها الإمبراطورية المروية التي وجدت خلال الحقبة اليونانية الرومانية، وهي من الإمبراطوريات القليلة التي لم يستطع الرومان إخضاعها بالقوة .
وتوالت الاكتشافات العلمية في تاريخ السودان القديم، وليس أدل على ذلك اكتشافات البعثة السويسرية الفرنسية السودانية المشتركة التي حملتها وكالات الأنباء العالمية، وملأت أسماع العالم، بعد اكتشاف بوابة نوبية أثرية كبيرة في موقع “دكلي قيل” بمنطقة كرمة بالولاية الشمالية. البوابة التي أصبحت حديث العالم، والتي شيدت من طوب اللبن بارتفاع 100 متر، وهذا ما يجعلها واحدة من أكبر البوابات المعروفة في التاريخ، ولا شك أن هذا الاكتشاف العظيم، سوف يسهم في توضيح عمق الحضارة السودانية، ويعمل على تغيير كثير من القناعات والمعلومات التاريخية المغلوطة التي سادت بسبب غياب الدراسات في السابق .
ومع تردد أصداء أحدث الدراسات التاريخية الدولية في العالم حول الحضارة السودانية القديمة تزايد انزعاج بعض الدوائر الآثارية والسياحية والإعلامية في مصر بسبب تسليط الضوء الإعلامي على الحضارة السودانية القديمة، التي تتشابه إلى حد كبير مع الحضارة المصرية، وتشترك معها في بعض الخصائص، على الرغم من تفوقها في القدم، حسبما أظهرت دراسات دولية .
ثم جاء بروتوكول التعاون القطري السوداني والبرنامج المصاحب لترميم الاثار ومئات الأهرامات السودانية وتأهيلها – بعد أن كانت مهملة زمناً طويلاً بفعل أخطاء سودانية متراكمة، وبسبب عدم الاهتمام بالآثار- ليزيد حساسية بعض تلك الدوائر المصرية لا سيما بعد تصاعد الاهتمام الإعلامي العالمي بالآثار السودانية، كأنها تكتشف لأول مرة.
يعتقد معظم المصريين ي أن تاريخ السودان هو مجرد صدى لتاريخ مصر، وهذا ما أثبت المؤرخون نقيضه تماماً، على الرغم من التواصل التاريخي منذ القدم بين الحضارتين السودانية والمصرية، ومن ثم هم يجهلون تاريخ السودان القديم والحديث؛ بسبب الدراسات التلقينية التي تفرضها السياسات التعليمية، باستثناء بعض المتخصصين والباحثين، وهذه مشكلة ناجمة عن عدم الإدراك المتبادل بين الشعبين .
غير أن هناك من يقول إذا كان بعض المصريين يؤمنون بأزلية وتاريخية العلاقات الضاربة في القدم بين البلدين، فمن باب أولى إدراك أن للسودان أيضا تاريخاً ضارباً في القدم، له مظاهر وخصائص آثارية خاصة به، ليست بالضرورة خصماً على الحضارية المصرية، أو على مصالح البلدين الاقتصادية والسياحية والثقافية، بل يجب ان تكون مكملة من دون حساسية لن تقدم، بل تؤخر .
ثم تأتي زيارة الشيخة موزا بنت ناصر حرم أمير قطر الأب للسودان وزيارتها أهرامات السودان وأعمال المشروع السوداني القطري في البجراوية، وما وجدته من اهتمام إعلامي عالمي سلط الضوء على أهرامات السودان المتراصة؛ لتكشف عن بعض ردود الأفعال السالبة من بعض الأشقاء في مصر ضد السودان، وقد اتسمت بالسخرية في بعض دوائر الإعلام المصري استخفافاً من جوهر المكان ومظاهره التاريخية والحضارية، استخفافاً لا يصدر إلا من جاهل بحقائق التاريخ والجغرافيا، أو مسكون بغيرة ساذجة .
لهذا لم يجد أحد الإعلاميين المصريين في إحدى القنوات الفضائية المصرية – وهو يقلل من قيمة زيارة الشيخة موزا لأهرامات البجراوية – حرجاً في نفسه أن يقول بلغة ركيكة لا تليق بمشاهد: (الشيخة موزا لديها صورة جنب حبتين نيستو)، ما هو دا كيد نساء، عملت شوية أهرامات وكانت بتزور، إيه دا)، ونيستو هي مكعبات جبنة، و”يقصد أهرامات السودان”، وأضاف وهو يستعرض صورة الشيخة موزا في أهرامات البجراوية، وهو يقول: إتفرجوا على مثلثات الجبنة الأهرامات ،الأهرامات دي عاملنها ازاي ما أعرفش).
ولا أدري لمصلحة من يعمل بعض الإعلاميين المصريين على استفزاز مشاعر السودانيين واستثارتهم ضد معاني الإخاء بين الشعبين، مهما كانت التباينات في السياسات والمصالح بين الدولتين، ثم متى كان التاريخ يقاس بحجم المعابد والاهرامات كبرت أم صغرت، ففي المكسيك غير اكتشاف جرة من الفخار مسار الدراسات التاريخية التي كانت سائدة لعقود في تلك المنطقة .
لقد تجاوزت التطورات الرأسية والأفقية التي تشهدها منطقتنا ولا سيما في السودان الذهنية التقليدية لبعض دوائر الإعلام المصري التي لاتزال أسيرة لثقافة أفلام الأبيض وأسود، التي تحكمها ثقافة العقلية الخديوية، والتي لاتزال تسعى إلى تجسيد الانسان السوداني في صورة نمطية معينة للتقليل من شأنه، واغتيال شخصيته كلما سنحت الفرصة لذلك في السياسة أو الاعلام او الدراما، وهي تعبر في الواقع عن حصيلة معرفية متواضعة وساذجة .
كما تجاوزت أيضاً منطق الاستخفاف والسخرية بالإنسان السوداني وتاريخه وحضارته، فالمذيع الذي لم ينل حظاً من المعرفة واللياقة، لم ينل حظاً وأمثاله من معرفة التاريخ، وما تجود به الأبحاث والدراسات العالمية حول تاريخ السودان وحضارة شعبه .
ومن ثم لم يلفت نظره ذلك الاحترام الذي تحظى به الشخصية السودانية، سواء في محيطها الإفريقي أو العربي أو العالمي؛ لآن ذلك الانسان السوداني ببساطة نتاج أقدم حضارة في التاريخ ذات خصوصية لم تتأت لغيره .
فالتحية للأشقاء في قطر الذين يقدرون قيمة التاريخ والآثار والحضارة، وأربأ بالإعلام المصري أو بعض دوائره أن يكون كل همها التقليل من شأن السودان، وتسفيه مكانته، والسخرية من حاضره وتاريخه القديم، ومظاهر ذلك التاريخ حتى لو كانت بحجم مكعبات الجبنة كما يقول .
ذلك أن السودان كبير بمساحته المترامية، وأرضه التي تملأ القارة، وغنى بعلمائه ومفكريه ومثقفيه وساسته، وبثرواته الزراعية والاقتصادية، وثري بإنسانه وحضارته وتاريخه القديم، الذي يتداعى العلماء من كل أنحاء العالم للبحث والتنقيب في مخزونه وتاريخه، والكشف عن كنوزه وخباياه .
حسن أحمد الحسن
raiseyourvoicenow@yahoo.com