من ٣٠ يونيو ١٩٨٩، وهو تاريخ الانقلاب الذي نفذته (الجبهة الاسلامية القومية) في السودان (ذات مرجعية إخوانية) الى ٢١ يوليو ٢٠٢٠ (اليوم) الذي شهد بدء محاكمة أكثر من ٣٠ (متهما وفقا للتوصيف القانوني) تبدو حيوية وتميز نضال وتضحيات الشعب السوداني.
الشعب صنع بثورته السلمية المدهشة مناخا للعدالة بكل ما تعنيه الكلمة من دلالات.
مثول المتهم (أي متهم) في السودان الجديد أمام قضاء عادل مهم وضروري، لأنه أولا يوفر للمتهم كل الضمانات المطلوبة للمحاكمة العادلة.
ثانيا فان مناخ العدالة ينصف ملايين المظلومين والمضطهدين ، وهم بنات وأبناء ونساء ورجال السودان، وأطفال الوطن، الذين تحولت حياتهم الى (جحيم) تحت نير القمع ونهج نظام البشير القاتل، الفاسد، الظالم.
معلوم أن النظام الانقلابي دمر السودان تدميرا شمل المجالات كافة ، وظهر ذلك جليا على سبيل المثال في سرقة المال العام وتقسيم البلد الى (دولتين).
مشهد الرئيس المخلوع عمر البشير لدى وصوله الى موقع المحكمة ، ونزوله من حافلة أقلته و عسكريين ومدنيين (متهمين) بالتخطيط وتنفيذ الانقلاب عكس دلالات ودروسا عدة ،وأرسل أيضا رسائل الى الداخل السوداني ،والى دول في المنطقة والعالم.
المشهد يقول للجميع (خصوصا من دعم الانقلابيين في مراحل تاريخية مختلفة ) إن شعب السودان بدأ فتح صفحة جديدة في تاريخه ، صنعها بدماء الشهداء والجرحى وأوجاع المفقودين.
شعبنا بدأ يخطو خطوات عملية نحو تطبيق المرتكز الثالث لشعار ثورته السلمية الباهرة (حرية،سلام،وعدالة).
المؤكد أن البشير لم يفكر يوما وكذلك من خططوا ونفذوا معه الانقلاب ودعموه في الداخل والخارج بشتى طرق الدعم،سواء في سنواته الأولى أو حتى لحظة سقوطه أنه سيأتي مثل هذا اليوم، ليقف من كان يصول ويجول ويهدد ويشتم أمام محكمة وفي (قفص الاتهام) .
أوساط (مخدوعة وواهمة) في الداخل والخارج لم تتوقع مشهد ( المحكمة اليوم) وهناك من كان يرى في مثل السيناريو نوعا من الأوهام ، بعدما توهم أو توهموا أن القبضة الحديدية قتلت ارادة الشعب السوداني .
ظن ضحايا آلة الخداع والتضليل الضخمة أن (الصحابة الجدد) كما وصفهم (داعية عربي ) يحظون بحماية الشعب وحبه، وكان هناك من يعتقد بأن نظام المخلوع البشير قوي وصامد أمام كل العواصف حتى من عاصفة الشعب !.
شعب السودان فعلها للمرة الثالثة في تاريخه،اذ قاد سلميا ثورات أكتوبر ١٩٦٤،وأبريل ١٩٨٥،وديسمبر ٢٠١٨ التي اسقطت نظام البشير في ١١ أبريل ٢٠١٩ (بعد اربعة أشهر سادها حراك ثوري ).
رئيس المحكمة القاضي الأستاذ عصام الدين محمد ابراهيم أطلق الدرس الأول اليوم ، حينما قال في مستهل حديثه انه سيكون على مسافة واحدة من الطرفين (الاتهام والدفاع).
بعدما طلب أحد محاميي الدفاع ان يتم السماح للمحامين وأسر المتهمين بمقابلة المتهمين ، رد القاضي مشددا على حق المتهمين في ذلك، وان هذا قد تم بالفعل عندما تلقى طلبات في هذا الشأن.
القاضي استجاب لطلب (الدفاع) بمراعاة التباعد الاجتماعي في زمن كورونا ، وأعلن أنه سيسعى لابلاغ الجهة المسؤولة عن ترتيبات المحاكمة بذلك ، لاختيار مكان يتسع لدخول كل المحامين بهيئة الدفاع.
بدا القاضي متجاوبا مع طلبات الدفاع وهذا يؤكد حرصا على مناخ العدالة في سودان الحرية، وهو مناخ كان مفقودا في (زمن رئاسة البشير وجماعته) .
كان النظام المباد يقتل من دون محاكمة،ويعذب، ويعتقل ، ويمارس مختلف صنوف الظلم والقمع والاستبداد.
هاهم المتهمون أمام قضاء مستقل ،لا يتدخل في أعماله أي مسؤول حكومي،سواء كان صغيرا أو كبيرا، فالكلمة الفصل للقضاة حملة مشاعل العدالة .
وقائع الجلسة الأولى لمحاكمة المتهمين بجريمة الانقلاب (السياسية والجنائية) ذكرتني بأول مقال (تحليلي) كتبته في ١١ يوليو ١٩٨٩ في صحيفة (العرب) القطرية ( حيث كنت أعمل في مرحلتها الأولى ) أي في اليوم الحادي عشر من عمر الانقلاب المشؤوم.
في ذلك التاريخ كان قادة عدد من الأحزاب و النقابات في معتقلات (الانقلابيين)،وكان بعض الناس في حالة من الذهول والاضطراب، وهناك من ركض لاعلان الولاء والطاعة.
عدت الى المقال (نسخة ورقية احتفظ بها، اذ كتبته في زمن ما قبل انتشار استخدام الصحف لشبكة الانترنت عبر مواقع اليكترونية ).
العدالة كانت حاضرة في ذهني منذ أيام الانقلاب الأولى، وجاءت عناوين المقال لتقول(على هامش الانقلاب العسكري في السودان) (دائرة الصراع ستستمر اذا لم يتم حسم قضية الهوية والثوابت)و( الديمقراطية اختيار شعبي والتوصل لحقوق حقيقية للمشاكل يتطلب فلسفة سياسية واضحة). وما يهمني هنا عنوانان وهما (استقلال القضاء ضرورة ..وهناك فرق بين محاكمة الفساد ومحاكمة الفكر والرأي ) و(الأزمة الحقيقية أزمة عدل،ولكن أين المقاييس والمعايير).
أكدت في المقال أنه (اذا كانت الفترة الماضية (فترة الديمقراطية الثالثة قبل انقلاب البشير) شهدت صراعا حزبيا انعكست آثاره السلبية على حياة المواطن فان هذا لا يعني سقوط الخيار الديمقراطي نهائيا، كما لا يعني ذلك أن السودانيين مستعدون للتعايش مع أساليب القبضة الحديدية وكتم الأنفاس).
قلت في مقالي بتاريخ ١١ يوليو ١٩٨٩ أن (السودانيين كما أكدت التجارب والوقائع هم من أكثر شعوب الدنيا عشقا للحرية والديمقراطية ،ولهذا فان أي نظام حكم في السودان لن تتوفر له مقومات الاستقرار والبقاء اذا صادر حقوق الناس الأساسية ،وهذا الجانب سيمثل تحديا للنظام الجديد(أعني نظام البشير) وستحدد خطوات النظام الجديد في هذا المجال آفاق المستقبل).
شددت في المقال (ووقتها كانت تهديدات الانقلابيين للناس تملأ الآذان والأمكنة) على أنه قد (تأكد من خلال تجارب السودان أن الغاء الأحزاب والنقابات لن يلغي وجودها حتى لو تلقت الضربات تلو الضربات،كما أن صدور قرار بالغاء الأحزاب قد يكون اجراء تمليه ظروف الانقلابات ، ولكن ذلك لن يشطب الحقيقة القائلة أن الحركة السياسية ضاربة الجذور في المجتمع السوداني،وهذا يتطلب تعاملا يعترف بالواقع ،وبما تعنيه المستجدات الجارية في عدد من الدول، والتي تشير الى رسوخ الوعي بأهمية التعددية الفكرية، في عالم يبحث عن المداخل السلمية لتطوير المجتمعات، من خلال جهود كل أبنائها ، وعن طريق الديمقراطية كلغة للعصر).
أشرت الى (الجدل بشأن قضية القوانين (قبل الانقلاب)وتساءلت (بأي قانون سيتم البت في القضايا) ، ونبهت الى خطورة الصراع على (الهوية والثوابت ) ودعوت الى حرية الصحافة واستقلال القضاء ،كما دعوت الى (ميثاق وطني) يتوافق عليه السودانيون كافة، للحؤول دون الصراع والتناحر الذي يدفع ثمنه كل السودانيين مدنيين وعسكريين ) ، كما حذرت من ( الصراع بين الفلسفات والاتجاهات المختلفة).
هل يقرأ (الانقلابيون) وهل تسمع آذانهم الرأي الآخر والنصح؟ اذا قرأوا وضعوا أي صاحب رأي حر داخل السودان أو خارجه في مرمى نيرانهم متعددة الأشكال والألوان.
هاهو الشعب يلقنهم اليوم درس ( مناخ العدالة) من خلال تفاعلات أول جلسة لمحاكمة المتهمين بالانقلاب على حكومة مدنية منتخبة .
دائما أقول ان الله أعان شعبنا في اقتلاع الظالمين الطاغين الذين رفعوا الشعار الاسلامي للمتاجرة بالدين ولقهر الخصوم .
المحاكمة درس بليغ تحتاج جهات داخل السودان الى تأمل أبعادها،ولعل أهم معنى ورسالة ان لا مستقبل للانقلابات والانقلابيين وان المستقبل للشعب والحرية،وأن مستقبل أو مصير أي ظالم ومستبد ستحدده ساحات العدالة،اليوم أو غدا .
المحاكمةارسلت أيضا رسالة الى دول دعمت (الانقلابيين) في مراحل مختلفة، وهي دعوة الى تأمل الدرس السوداني الذي يرفض الظلم، كي يفتحوا صفحة جديدة مع الشعب السوداني في السودان الجديد، تحترم خياراته الوطنية ، وتسعى الى تحقيق مصالح مشتركة على أرضية الاحترام المتبادل .
من ناصر (الانقلابيين) طوعا أو تحت تأثير (التضليل) عليه أن يقرأ تاريخ الشعب السوداني ، ليتعلم من درس الثورة السلمية ومناخ (العدالة) الراهن.
في هذا السياق أدعو من ظلم أي سوداني خارج السودان (في سنوات الملاحقة ) ليسارع الى احقاق الحقوق، في سبيل تبرئة الذمة ونصرة المظلوم.
العالم اليوم تحول الى قرية صغيرة، وساحات العدالة ومنصات الدفاع عن حقوق الانسان باتت متسعة باتساع الفضاء الدولي،كما هو الحال الآن في السودان .