37 عاما مضت على أغنية فيروز الشهيرة: “من قلبي سلام لبيروت”، فهل كان يستشرف جوزيف حرب المستقبل حين قال:
” لبيروت من قلبي سلامٌ لبيروت و قُبلٌ للبحر والبيوت لصخرةٍ كأنها وجه بحارٍ قديمِ
هي من روحِ الشعب خمرٌ هي من عرقِهِ خبزٌ وياسمين فكيف صار طعمها طعم نارٍ و دخانِ”.
لتصدح صاحبة الصوت الملائكي ” فيروز “؛ حتى إذا ما كانت الكارثة في 2020 يسترجعها الناس، والغصة تخنقهم، والعبرات تتحجر في العيون، والآهات تنخلع منها القلوب والصدور.
“لبيروت مجدٌ من رمادٍ لبيروت من دمٍ لولدٍ حُملَ فوق يدها أطفأت مدينتي قنديلها
أغلقت بابها أصبحت في السماء وحدها … وحدها و ليلُ”؛ هذا هو الفن والشعر والإبداع والألق المجنح في تلك الأرواح الهائمة عشقًا بأوطانها.
هذا هو الفارق الأزلي بين أولئك الذين يبيعون أوطانهم بالخيانة والعمالة والنذالة، وأولئك الذين يتفانون عشقًا وحبًا وقلقًا على أوطانهم فلاينامون إلا وقد سبّحوا بحمد أوطانهم، وهللوا بذكرها في مكابداتهم زاهدين في كل شيء إلا في عشق تراب الوطن.
“أنتِ لي أنتِ لي أه عانقيني أنتِ لي رايتي و حجرُ الغدِ و موج سفرٍ”
بيروت هي المأوى والملجأ والملاذ لأولئك المتفانين في عشقها، في فرحها وأنينها؛ هؤلاء هم الناس الذين قال عنهم أمير الشعراء أحمد شوقي:” أنتم الناس أيها الشعراء “.
جوزيف حرب لم يكن يعلم أن قصيدته تلك ستكون استشرافًا لما حدث في مرفأ بيروت؛ مخلفًا كارثة ونكبة ودمارًا طال الأبرياء والأنقياء، فقضى المئات نحبهم، وأصيب الآلاف؛ ناهيك عما خلفه هذا الانفجار – الذي أظنه مقصودًا مع سبق الإصرار والترصد لتركيع هذا البلد الشامخ – من آثار نفسية، ومهازل سلبية يتحملها أولئك المقصرون في حق لبنان وفي كل بلد من بلداننا في وجه المؤامرات؛ سواء بالسكوت المزري، أو بالسكوت الجاهل بتصاريف الأمور.
“أزهرت جراح شعبي أزهرت .. دمعة الأمهات .. أنتِ بيروت لي أنتِ لي أه عانقيني”، هل كان يعلم جوزيف حرب حين كتب قصيدته تلك أنه يصرخ من أعماق قلبه مجسدًا في صوت شادية العرب “فيروز” مدى ذلك الألم الذي ستخلفه هذه الكارثة قبل 37 عاما من حدوثها، فتزهر الجراح، وتسيل دمعة الأمهات الثكالى، ويشعر برعب هؤلاء الأطفال الذين لا ذنب لهم، ورغم ذلك فليس له ولغيره من العاشقين لتراب لبنان إلا هذا التراب، فيطلب من بيروت أن تعانقه، فلا ملاذ ولا ملجأ له إلا حضن بيروت وأمانها.
” فلولا حب الأوطان؛ لخربت بلاد السوء” كما قال الفاروق عمر رضوان الله تعالى عليه، فإن لم نعشق أوطاننا، فلن تقوم لها قائمة، وسيظل المتربصون والماكرون والخونة؛ يرتعون في جنباتها، وينعبون كالبوم لخرابها، وينعقون كالغربان على أطلالها.
ليس لنا إلا أوطاننا التي تؤوينا من متاهات الحياة، وتنير لنا الدروب عندما تظلم الدنيا في عيوننا، ولنحذر جميعًا، فمتآمروا الأمس؛ خونة اليوم الذين يعيشون بين ظهرانينا، ولا يرقبون في أوطانهم إلاًّ ولا ذمة.
ورغم هذه الكارثة، وهول هذه المأساة؛ مازلت أرى طائر الفينيق يضرب بجناحيه تراب بيروت؛ لتنتفض من جديد واقفة صامدة جميلة شامخة بأَرزها؛ صلبة بأبنائها المخلصين؛ لتعود فيروز تصدح من جديد:
“لبيروت من قلبي سلامٌ لبيروت و قُبلٌ للبحر والبيوت”.