يبدو أن زمن “الغتغتة والدسديس” لم ينته، ومشوار الشفافية والوضوح ما زال طويلاً جداً حتى بعد انجاز أعظم ثورة في تاريخ السودان، إذ يصر كثيرون على تقزيمها؛ لأنهم لم يستوعبوا حتى اللحظة حقيقة ما حدث من تغيير.
بالله عليكم تخيلوا معي أن تظل في حالة بحث لمدة يومين عن نسخة من ميزانية 2020 ولا تجدها، وهي غير متوافرة في الموقع الرسمي لوزارة المالية، والجهات الرسمية تغلق الأبواب في وجهك عندما تسأل عن الميزانية، كأنك تجاوزت خطوطاً حمراء، وارتكبت جريمة نكراء، وهذا لعمري هو قمة عدم الشفافية والوضوح في شأن عام، وبذلك نفقد الثقة في القيادات الحالية.
تواصلت في الرقم المعلن على موقع وزارة المالية لا يوجد رد، أرسلت إيميل للاستفسار عبر البريد الرسمي المعلن للوزارة أيضاً لا يوجد رد، كل أبواب وزارة المالية مغلقة أمامنا، مع حالة توجس وخيفة حقيقية، مع ملاحظة أن الدول المحترمة اليوم تعلن الميزانية العامة ثلاث مرات خلال العام (ربعياً ونصف سنوياً وسنوياً)، وكل البيانات معلنة ومتاحة في المواقع الرسمية، ولا صعوبة في الأمر إلا في بلد العجائب هذا.
وعطفاً على ما تم إعلانه عن اعتماد ميزانية معدلة والتي اتضح أنها “مبهدلة”، مع إتاحة معلومات ناقصة عبر تصريح خجول من وزير الإعلام، أريد أن أشارككم واقعة حقيقية حدثت في إحدى المؤسسات العريقة، تعكس لنا ما يحدث في أروقة وزارة المالية التي ما تزال تحت سيطرة “الفلول”، وهذه حقيقة أتحدى بها كل مجلس الوزراء الذي يعمل بانتقائية مفرطة في التعيين والإعفاء من الوظائف العامة.
ما حدث في تلك المؤسسة المعروفة خارج الحدود، هو أن المدير العام “المحترف” بمجرد علمه بقرب مغادرته إلى مؤسسة أخرى، عمد على رفع رواتب مديري الأقسام إلى أرقام فلكية، وضاعف مرتبات الموظفين والعمال، ورسم صورة وردية لإيرادات المؤسسة التي تعاني من شح الموارد المالية في الحقيقة، وحينما حان وقت الوداع، غادر باحتفالية كبيرة وهدايا وورود وابتسامات وخطابات وداع بكل ما جادت بها اللغة من شعر وطباق وجناس واقتباس، وبعد أول عام انهارت المؤسسة وأغلقت أبوابها بسبب فشل المدير الجديد في الالتزام برواتب الموظفين الفلكية، ولشح الموارد، فتحمل صاحبنا الفشل، والمدير السابق يتابع ما يحدث وفي وجهه ابتسامة نصر ماكرة.
هذا بالضبط ما حدث اليوم في ميزانية 2020، إذ عمل وزير المالية المستقيل على زيادة الرواتب بنسب عالية جداً دون أي اعتبار لشح الموارد، إضافة إلى رفع سقف الإيرادات المتوقعة، التي اعتمدت بشكل كبير على المانحين والقروض، وتخفيض العجز إلى مستويات متدنية، ولكن ما حدث في الواقع هو العكس تماماً، تراجعت الإيرادات بنسبة 40%، وارتفع العجز إلى مستويات كبيرة، ما استدعى الأمر إلى اتخاذ إجراءات طوارئ عاجلة بعد مغادرة الوزير الذي ذهب إلى الاستجمام وهو يتابع ما يحدث بذات الابتسامة الماكرة.
الكارثة التي ظللنا نحذر منها، وسنظل، هي مسألة سعر الصرف، وما إن وجدت كلمة “تدريجي” فيما يخص السعر الرسمي للدولار، أيقنت بأن الأزمة الاقتصادية لن تنتهي قريباً، وأن اتخاذ القرار ما زال بعيداً عن أروقة وزارة المالية التي تخجل من فتح أبوابها أمام الإعلام الاقتصادي.
التعديل “التدريجي” لأسعار صرف الدولار والدولار الجمركي على مدى عامين للوصول إلى السعر الحقيقي، هو أسوأ كارثة قد تحدث للاقتصاد خلال الأعوام المقبلة، والتي ستقود إلى قفزات كبيرة وصادمة في التضخم المرتفع أصلاً في حدود 136.36 % في يونيو الماضي، حتى يصبح الأمر خارج حدود السيطرة، هذا إذا لم يكن خرج اساساً، والسبب زيادة الرواتب غير المدروسة والاعتماد على المنح، إضافة إلى سيطرة تجارة العملة والمصدرين على كل مفاصل الاقتصاد عبر الشركات الحكومية والبنوك بعيداً عن نفوذ وزارة المالية.
عندما طالبنا حكومة الثورة قبل عام من اليوم بسرعة “تعويم الجنيه” كان وقتها الدولار الرسمي نحو 18 جنيهاً، ثم قفز إلى أكثر من 35 جنيهاً، وكان الخوف من التعويم حينها أن يتجاوز سعر الدولار الحقيقي حاجز الـ100 جنيه، واليوم بعد عام تجاوز الدولار 150 جنيهاً بدون تعويم، والسعر الرسمي في حدود 55 جنيهاً، والقرار الحالي بتعديل سعر الصرف ليصبح 120 جنيهاً، سيرفع السعر الموازي إلى 220 جنيهاً، وكل هذا يصب في مصلحة تجار العملة، ويزيد من معاناة المواطن ويسهم في الغلاء وتعطيل الإنتاج.
إذا كان فعلاً هدف وزارة المالية هو الوصول إلى السعر الحقيقي للدولار، فلماذا الانتظار لعامين كاملين، لم لا نصل اليوم إلى السعر الحقيقي عبر التعويم، واستعادة مليارات الدولارات من خزن البنوك والشركات والتجار وتحويلات المغتربين بضربة واحدة، لأن مجاراة السوق الموازية للوصول إلى سعر حقيقي هو من سابع المستحيلات طالما هناك سعران رسمي وموازي، وقرار زيادة السعر الرسمي إلى 120 جنيهاً، يزيد من أرباح ومكاسب تجار العملة من بنوك وشركات ومؤسسات وأفراد ويرفع نسب التضخم إلى مستويات غير مسبوقة.. ولنا عودة.. دمتم بود