إن عظمة الحدث إذا أغفلها التاريخ خلدها عبق المكان، لكن كرري وجبل سركاب حيث بدأت ودارت أحداث ذلك اليوم الرهيب لم يغفل عظمتها المؤرخون الوطنيون وحتى الأجانب. في الوقت ذاته ظل المكان يروي تفاصيل المشهد إلى يومنا هذا، بما احتفظ به من تفاصيل مادية وأخرى هي روايات تناقلتها الأجيال.
لقد قضت قيادات المهدية ليلة ما قبل المعركة حتى صبيحة
2 سبتمبر 1898م تقلب الخيارات. فكان الوجع والوجيع والحسرة في الاختلاف حول
تكتيكات المواجهة، أهي مبادأة العدو ليلاً والاستفادة من غطاء الظلام أم الانتظار
حتى الشروق، أم إسقاط كلا التكتيكين والانتظار داخل
مدينة أم درمان، والدفاع عنها باصطياد قوات العدو بين
الأزقة والحارات.
لقد انتهى مجلس شورى الخليفة إلى قرار مهاجمة العدو في
الساعات الأولى من الصباح، الذي لم يعجب كثيرين، فقال الأمير إبراهيم الخليل
ممتعضاً: “المهدية مهديتكم لكن نصر ما في”.
ورغم حدة النقاش والاختلاف إلا أن القيادات قد التزمت
بذلك، وكان واضحاً أنهم ذاهبون ليموتوا، وليس للانتصار. فذاك إبراهيم الخليل يسرج
حصانين حتى لا يعطله إصابة الحصان الواحد دون أن ينفذ إلى أعماق العد، وذلك شقيقه إسماعيل
الضرير يمتطي جواده منطلقاً في اتجاه العدو، وهو فاقد البصر معتمداً على حاسة
حصانه.
أما الامير
يعقوب جراب الرأي، فهو الذي بدأ الهجوم بصرخة الحرب “تبلديه وقعت في
الكفار”، ولم تشرق الشمس إلا و توالت اخبار الشهداء من الرموز.
وكان القائد الفارس “علي الجله” يتنقل في
رهق بين قيادات الرايات ينقل لهم توجيهات خليفة المهدي، وينقل عنهم إفاداتهم عن
الموقف.. أي قوم هؤلاء !! إنهم اسود كرري الذين حصدتهم مدافع المكسيم، وأحدث ما أنتجته
مصانع الحرب في يوركشير.. نعم، إنهم دُمروا في هذه المعركة، لكنها كانت هزيمة بطعم
النصر، الذي ظللنا نتغنى ونفخر به، فكل سوداني له جد مدفون في تلك الساحة .. ساحة
الشرف.
لقد مضى على معركة كرري اكثر من 122سنة وهي العجاف وأصبحت
ذكرى نعيشها سنوياً، وتجدد في نفوسنا الألم والفخر معاً.. إنه يوم الكسرة من أم درمان
الذي اختلطت فيه دماء الشهداء بدموع الأرامل الباكيات، وتحتهن يجري أطفال يتامى
ذهب اباؤهم إلى خط الدفاع عن الوطن والحرية والكرامة ولم يعودوا.. والأمهات عبثاً
تحاول تحمل مسؤوليتهن في هذا الظرف العصيب، وهكذا دائماً يكون هول وعظم المأساة في
الحروب تتحملها المرأة منفردة، إنه الدرس الذي استعصى علينا فهمه، وتجنبه حتى
اليوم.
اندلعت الثورة المهدية، وكان اول انتصاراتها معركة
الجزيرة أبا 1881م، التي صادفت 17 رمضان. نعم إنها بدر الثانية، التي كان قوامها
قيادات من قبيلة دغيم الباسلة، وبعض الحسونات والكواهلة وكنانه وآخرين هم أبكار
المهدية.
لقد هزّ انتصار ذلك اليوم الأغر مضاجع ممثلي الإمبراطورية
التي لا تغيب عنها الشمس في الخرطوم. ومن هناك كان الانطلاق إلى عرين الثورة الذي
اختاره الإمام المهدي بعناية ودقة العارفين بفنون الحرب، وكيف يمكن للرجال الأشاوس
أن يقدموا كل ما يستطيعون من أجل نصرة الدين والوطن.
وهناك في قدير زأر اسد الثورة يستفزع قبائل المنطقة
التي عرفت بقوة البأس ونصرة من يطلب الفزع. وكانت استجابتهم هتافاً قوياً ”
سيروا… سيروا للمهدي في قديروا ” وللاسف هذه المنطقة قدير وأهلها لم تجد
التخليد والتقدير من كُتّاب التاريخ، ناهيك من الدولة الوطنية.. أليس منها المك
أدم ام دبالو .. ورابحة الكنانية التي أهدت الثورة أكبر عمل استخباراتي على حساب
حياتها، وقام عليه النصر.. نعم لقد بقيت قدير وأهلها مجهولة إلى اليوم لا يغشاها
إلا الرعاة والمزارعون لكنها ظلت شامخة، رغم تغافل الدولة والتاريخ.
وفي هذا المعنى يستحضرني مقدمة قصيدة قالها الاخ
الاديب الشاعر المرهف من مدينة دلامي الرفيق حيدر جراهام، ومن هنا أحييه وهو
المقيم في دولة قطر رد الله غربته. حيث استهل القصيدة عن مدينة دلامي إحدى محطات
الثورة المهدية من قدير إلى شيكان، فقال:
من بئر المؤمنين وميدان البيعة …
انطلق جموع الأنصار الى شيكان ..
وكان فتحاً ونصراً مؤزراً عمّ كل أرجاء الوطن..
(والقصيدة طويلة جميلة معبرة عن تاريخ وعبق المنطقة
وعنوانها ” شيءمن عبير الذكريات لكن لا يسع المقال لإيرادها كاملة
“).
لقد مضت الثورة المهدية من نصر إلى نصر، بعزيمة رجالها
رغم ضعف إمكانياتها، والمرءُ يقف إعجاباً لمهارة القيادة التي تمكّنت في زمن وجيز
من التعبئة العامة، وخلق رأي عام موحد تحت راية وطنية!! هل هي كاريزما القيادة
وصدقها أم هي قدرة القائد المنظر وخليفته التنفيذي الذي استثمر الواقع والمعاناة.
لقد حملت الأسافير أخبار انتصارات الثورة المهدية وكيف
أنها ضربت وهزّت مراكز القرار في لندن، فكانت في حرج من دراويش ينتزعون حريتهم
بشموخ، ويلقنون أباطرة العالم دروساً لن ينسوها.
في الجانب الآخر كانت مراكز اليسار المنتشرة في أوربا تنًظر في كيفية تحرير العالم من الإمبريالية، ومساندة حركات التحرر ونضالات الشعوب، تتابع بفرح واندهاش ما يجري في ارض النيلين بأيدي شعبه الأسمر.
لقد تابع كارل ماركس منظر الفكر الشيوعي عن قرب أخبار الثورة المهدية ومنشوراتها التعبوية وانتصاراتها، وكان معجباً بهذا النموذج من النضال الذي جعله يتوقف ملياً متأملاً هذه الثورة الجبارة التي هزّت نظرياته وتفسيره للثورات بأنها صراع طبقي ولأسباب مادية.
لكن دخول عالم الروحانيات والإيمانيات قلب معادلته. لقد
قيل إن كارل ماركس من شدة تأثره بالثورة المهدية واطلاعه على منشورات المهدي في
التعبئة، وكيف أنه قد أفرغ قلوب شعبه وتنظيفها، وإعادة تعبئتها بروح الجهاد،
وعقيدة التوحيد التي جمعت الناس، فتكامل العامل الروحي والتخطيط العلمي لعمليات
الثورة. وتفاعل كارل ماركس مع أخبار الثورة المهدية التي كانت تتناقلها صحيفة
التايمز اللندنية وقيل إنه كتب إلى رفيقه في الفكر “فريدريك أنجلز”
قائلاً:
“إن الاخبار التي تأتينا من السودان في هذه الأيام،
أخباراً مثيرة للفكر. وإنها ستدفع بنا الى أن نجيل النظر في مجمل المذهب الشيوعي
الذي ندعو إليه، وستجبرنا على إعادة التأمل في حديثنا عن أن الدين أنما هو مجرد إفراز
للوضع الطبقي. وتدعونا إلى النظر بعين النقد الى أطروحتنا المتفرعة عن ذلك القائلة
إن “الدين افيون الشعوب”، وإن الدين الاسلامي بهذه الصيغة الثورية
المهدوية المتفجرة في السودان أصبح وسيضحى وقوداً للثورة العالمية ضد الإمبريالية.
ولا يمكن أن يوصف بأنه أفيون يخدر المستضعفين كما نقول”… أليس ذلك يجعله أقرب
الى فكر المهديةوالانصارية؟
أيً كان دقة هذا الكلام المنسوب لكارل ماركس، لكن للأسفـ
فإن الرجل لم يعش طويلاً لنرى مدى التغيير الذي حدث له في تفكيره. لقد توفي بعد
عامين ولم تتح له فرصة متابعة ملاحم وانتصارات الثورة المهدية اللاحقة في شيكان والأبيضـ
ثم فتح الخرطوم التي أنتصر فيها مستضعفو السودان على جند الامبريالية.
وحقيقة، إن تفاعل اليسار على مستوى العالم وخاصة في أوروبا
لم ينته عند القادة، مثل: كارل ماركس أو أنجلس بل تعداهم إلى مستوى الأدب والفنون
المرتبط باليسار. فقد تفاعل الشاعر والروائي الانجليزي “وليام موريس”
الذي عرف بعدائه للإمبريالية ومناصرته لكفاح الشعوب من أجل الحرية. وكان من الذين
جاهروا بمعارضتهم ارسال جيش بريطاني إلى السودان لإنقاذ الجنرال غردون المحاصر هناك.
فكتب موريس لابنته “ماي” في 20 فبراير 1885م قائلاً: لقد سقطت الخرطوم في
أيدي شعبها الذي تنتمي اليه.
“Khartoum
has fallen into the hands of the people it belong to….………………”
كما كتب ايضاً معلقاً على انتصارات الثورة المهدية قائلاً:
“إنه انتصار الحق على الباطل، وهو انتصار انتزعه شعب يقاتل من أجل حريته”.
بل لقد بلغت أصداء الثورة حتى أستراليا فكتب الشاعر الأسترالي
“بانجو باتريسون Banjo Baterson”
وهو من أبرز شعراء اليسار، فأنشد مستنكراً مشاركة قوات أسترالية ضمن حملة إنقاذ
غردون، وقمع شعب يقاتل من أجل حريته قائلاً:
يا رجال أستراليا ماذا أتى بكم هنا… لماذا يا أبناء أستراليا
العادلة الحرة…
لماذا ترفعون
سلاحكم في وجه رجال يحاربون من أجل حريتهم…
تتحالفون مع الام (بريطانيا) لتهزموا الحق..
لماذا تترك أستراليا كنوزها للمخاطر فيما وراء البحار
…
قريباً سيشهدون فتية صحراء السودان الآلاف ضدهم ينتفضون.
باسم الرب والرسول للحرية سينتصرون.
بل كتب المؤرخ الروسي البروفبسور سيرجي سمرنوف عن فتح
وتحرير الخرطوم، قائلاً: “إن الثورة المهدية، وإن كانت حركة دينية عند
نشوئها، إلا أنها أضحت بعد انتصارها على حملة هكس واستيلائها على الأبيض وتحرير
الخرطوم تتويجاً لسلسلة انتصارات الشعب السوداني ووصفها بأنها حركة ثورية تقدمية (مكتبة
دار الجيل لبنان ترجمة هنري رياض).
تلك هي الثورة المهدية التي وحدت البلاد وجمعت قبائله
في أم درمان فأنشأت أول دولة وطنية، وإن تأثيرها الذي تمدد إلى غرب أفريقيا
والجزيرة العربية بل حتى شبه القارة الهندية التي قررت إيفاد مقاتلين لمناصرتها.
إنها ثورة بحاجة إلى مزبد من التحليل والدراسة، وهنا نترحم
على روح الرائد عصمت حسن زلفو، وكتابه القيم عن كرري الذي أنصف فيه الثورة المهدية،
وجاء متميزاً من بقية الكتابات.