تجربتي للغناء كانت في دال :
لم أكن في شبابي معجباً بمطرب محدد .. كنت اكتفي بدندنة مطلع في أغنية أو بمقطع فيها ، بصوت منخفض .. بعد أن أتأكد أنه لا يوجد بقربي أحد .. فلا آمن أن أصدم أحداً بصوتي ( الجميل ) .. يكفي أن أذكر منها الأغنية التراثية ( ملاك ) ..
ومن طرائفي مع هذه الأغنية أنني وبعض شباب قريتنا كنا نشارك أهلنا في قرية دال رقصة الألِّي .. وكان مطربنا الفنان الكبير محمد مختار ( رحمه الله ) ، وآخرون لا أدري كيف كانوا يجدون الشجاعة لتقديم عروضهم ..
أو من الذي أقنعهم أنهم يمكن أن يقدموا ما يسمى غناءً .. زال عجبي لاحقاً لما سمعت بعضاً ممن يطلق عليهم لقب الفنان الكبير ..
كنا يومئذٍ في المدرسة الوسطى .. وجرت العادة أن يبدأ الكورس تكرار المقطع الأول معاً .. ثم يستقيم للمطرب الغناء حيال الايقاع والتصفيق المنغم وضرب الغناء حسب طلبه أو نزولاً لما يطلبه المستمعون في الحلبة .. وهذا ما حدث ذات ليلة .. ولكني فوجئت أن صوتي وحده هو الذي ظهر جلياً ..
وأن الكورس يردد بعدي .. فرددت حتى يستلم مطربنا الراية .. ولكن يبدو أنه كان مقلباً .. فقد انسحب المطرب من الصف .. وبدأت الزغاريد المشجعة ( مبتهجة بميلاد فنان جديد ) تملأ الساحة والآذان .. فانسحبت بدوري .. وبدأت محاولات التشجيع والإطراء لأدائي الممتاز .. ولم أعد أكرر ثانية ..
حتى محاولات إثبات الشخصية في رقصنا العنيف (الألي ) في تلك السن طلقتها بالثلاثة بعد أن وجدت نفسي ذات ليلة مظلمة وحدي في منطقة خلوية في دال أيضاً .. ذلك أن التعب : حركة ورقصاً ، جعلني في أثناء وقفة الزفة في تلك المنطقة أن أغمض عيني .. ولعلي شعرت بما حولي من السكون المطبق .. فاندفعت واقفاً بانزعاج وخوف قاتل ..
ولم أعرف وجهة الزفة .. فبدأت أنادي بكل قوتي .. وإذا بي اصطدم بطفل يستيقظ باكياً .. قبل أن أسأله تأكدت من شكل رجله ( فقد كنا نظن أن للشياطين أرجل كحافر الحمار ).. تبعت الطفل متردداً .. ولما وصلت مكان الفرح كان الناس قد قضوا على الوِدَّا ( هو ما يقدم لتكريم الضيوف في الأعراس خاصة ) بما يتضمن من الفشار والبلح واللقيمات .. ولمصيبتي من العشاء ..
وفي صيف 77 وفي أيام السيل عندما قصدت أن أشارك في الألي .. بعد صفقتين رفعت رأسي فإذا بجانبي اثنان من تلاميذي .. فكتمت رغبتي .. وانسحبت إلى حيث ينبغي أن أكون .. واكتفيت من الغناء بقول المطرب ( أعاين بعيوني .. بس بعاين ) أو كما قال ..
ولكن تشجيع صديقنا الدكتور يحيى ( رحمه الله ) وخالنا الصديق سيد حاج .. وجو القاهرة الذي يفرض على النفس الفرح والبهجة .. لم استطع أن أتمالك نفسي ، وأتفرج كعادتي فقط ، وأنا أرى أمام عيني حشود الروعة وشلالات الفرح الطاغي ..
ترى هل لتلك السويعات من عودة !!..